تثير سياسات الظهور والخروج جدلًا واسعًا ضمن دوائرنا الكويرية. فبينما يتمسّك بعضٌ بأهمية الظهور ودوره في تقدّم حقوق الكويريين، ينتقد آخرون هذا المنظور باعتباره مرتكزًا على نظرة غربية لا تحترم حقوق الكويريين بتقرير أدوات وأساليب نضالهم بما يتناسب مع سياقاتهم المحلية.
يناقش هذا المقال، وهو بمثابة خروجٍ من خزانتي، عولمةَ نموذج الخزانة وتقديمه كالمعيار الوحيد للوجود الكويري، وربط هذا الوجود بسياسات الظهور.
تاريخ «الخروج» و«الخزانة»
ترتبط مصطلحات الخزانة والخروج منها بمجتمع الميم-عين في سياقٍ غربي محدَّد يرمز إلى الإفصاح عن توجهٍ جنسي مختلف أو هوية جنسية مختلفة عن الهوية الجنسية المعيارية. تنسب بعض المراجع أصل عبارة «الخروج» إلى تبنّي نخبة من الرجال المثليين ثقافة الـdebutante (وهي كلمة فرنسية تعني السيدة المبتدئة، في إشارةٍ إلى شابّة من الطبقة الأرستقراطية تظهر للمرة الأولى في احتفالاتٍ اجتماعية كرمزٍ لجهوزيّتها للمواعدة والزواج). الخروج في ذلك الوقت كان يعني أن رجلًا مثليًا أفصح عن ميوله الجنسي كسيرورة ليكون جزءً من الثقافة المثلية آنذاك، وبالتالي يصبح جاهزًا لمواعدة رجال مثليين آخرين. حتّى أن طقوس الخروج نفسها قد استُنسِخت. فأصبح الرجال المثليون يخرجون خلال حفلات الدراغ (فن الجر) التي تقام في المدن الكبرى كنيويورك، في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. لم يأتِ ذكر الخزانة في السرديّات المثلية إلّا بعد عقود، وتحوّل المعنى من مشاركة الشخص سرّ ميوله مع مثليين آخرين إلى الإفصاح عنه للعائلة والمعارف والمجتمع بأسره.
يستدعي تفكيك نشأة الخروج من الخزانة استرجاعاً لنضالات سعت إلى تغيير مقاربات طرح القضايا المتعلّقة بمجتمع الميم-عين، من المطالبة بحفنةٍ من الحقوق الجنسيّة إلى تحرير الجنسانية من وصاية الدولة. شكّلت السبعينيات سنوات مفصلية تمكّنت خلالها الحركات التحرّرية الكويرية والنسوية من تغيير منظور الرأي العام للجنسانية. أفصحت مئات الآلاف من النساء والرجال عن ميولهم المثليّة في مرحلة ما بعد ستون-وال، الأمر الذي ساهم في تطبيع الجنسانيّات غير المعيارية وترسيخ فكرة أنَّ المثلية ليست انحرافاّ يستدعي تصحيحاً أو إبادة. لم نعد مقيّدين بالخطاب المنبطح الذي يلتمس من الآخرين تقبلنا بخجل، وهنا أثبتت استراتيجيات الظهور إذًا فعاليّتها في تحقيق مكاسب سياسية: ألغت الجمعية الأميركية للأطبّاء النفسيين تصنيف المثلية الجنسية كاضطراب نفسي، وتبعها في هذه الخطوة مجلس ممثّلي جمعية علم النفس الأميركية.
معيار الخروج من الخزانة
اكتسب الخروج من الخزانة أهمية مفرطة كانت كافية لفرضه على حساب الراحة الفردية. فتحوّلت حياة الخزانة من خيارٍ مشروع إلى مصدر خزي، وأصبح الخروج منها هو النموذج الوحيد الصحيح، بغض النظر عن الظروف المحيطة بهذا الخروج وعواقبه: إذا كنت مثلي/ـة داخل الخزانة لن تكون ذا فائدة للحركة، أيّ أنك لا تُحتَسب. بتنا نتسابق على الخروج تعبيرًا عن نضوجنا كمثليين/ات، معيدين بذلك إنتاج التسلسلات الهرمية الإقصائية التي نسعى للتخلّص والهروب منها. نحتفل بالخروج باعتباره إشباعًا لحاجة ضرورية للتعبير عن الذات لدى جميع الأفراد اللانمطيين، ونخصّص لذلك يومًا وطنيًا ثمّ عالميًا نستذكر فيه النضال الكويري الغربي.
وجد النظام الرأسمالي الأبوي نفسه مجبرًا على إعادة صياغة مؤسساته حفاظًا على استمراريته. فتخلّى عن العائلة المُغايرة وتقبّل الجنسانيات اللامعيارية، بل واحتوى النشاطيّة المثلية شرط ربطها بخطاب مطلبيّ غير مسيّس وسمح بالتنظيم الهوياتي المثلي المبتور عن مسعى النضال الكويري التحرّري، وخلق معياريةً مثليةً تحدّد الطبيعي وتقصي الخارج عنه. وجرى تعميم هذه المعايير (الخزانة ضمنًا) مع تصاعد الموجات النيوليبرالية رغم إشارة تجارب الكويريين المعاشة حول العالم إلى أن الظهور قد يعرضنا لردودٍ مجتمعية عنيفة، أو حتى لعقاب تكرّسه القوانين ومؤسّسات الدولة.
الظهور وعنف الدولة
يشهد لبنان سنويًا في شهر الفخر تجمّعات ثقافية وفنية وندوات حوارية وحملات إعلانية تنظمها مؤسسات مدنية عدّة تُعنى بمجتمع الميم-عين وتتبنى خطابات يتأرجح معظمها بين الحقوقي والسياسي وما بينهما. تؤجّج هذه الفعاليات النقاش في الدوائر الكويرية حول جدوى استراتيجيات الظهور، ليظهر الشرخ بين الأفراد الكويريين وقواعد تلك المؤسسات من جهة، وبين مجالس إدارتها من جهة أخرى، في ظل غياب للتشاركية وهيمنة للرجال المثليين مُماثلي الجندر على هذه المجالس وبالتالي على صنع القرارات. يفرض هذا كلّه نموذج الخروج والظهور في بلدٍ تحرّض مؤسساته الدينية المتماهية مع السلطة ومصالحِها على العنف والقتل، وتستمدّ الدولة شرعيّةً من هذه الجهات الدينيّة لمأسسة القمع وبثّ الذعر من «انحراف» يهدّد المجتمع، أو بالأحرى يهدّد- إن كان ثوريًا بما فيه الكفاية- عامود النظام الأبوي الرأسمالي: الأسرة النواة.
كأنّ الدولة لم تكن تعلم- كالعادة- أنّ حانات البلاد ونواديها الليلية ترتكز منذ عقود على القدرة الشرائية للكويريين، وقررت عندما باغتناها بوجودنا شنّ هجمة على مساحاتنا.
عندما يصل عنف الدولة ضدّنا إلى ذروته، تعود الجهات عينها التي نصّبت نفسها ممثلةً عن مجتمع الميم-عين، لتقرّر الاشتباك من عدمه، وتصبّ كل جهودها في تحرّكات رمزية تخدم ترسيخ مفهوم الظهور وتضعنا في مواجهةٍ مباشرة مع مجتمعنا ومع الدولة ومؤسساتها وأجهزتها المنفلشة. تصرّ على ذلك بدل الحشد للتنظيم وما يوازيه من بناء وتعزيز شبكات الأمان التي من شأنها توفير حماية للأفراد الأكثر هشاشة وتأمين ظروف لائقة لهم. قد يكون هذا طرحًا بعيدًا لكنه أقرب الى الواقع مما نظن. فنحن قادرون على توظيف إمكاناتنا في إنشاء تعاونيات معونة متبادلة للتعامل مع ردّات الفعل العنيفة المرافقة لخروج أو إخراج أحدنا من خزانته/ا، كما لدعم من لا خزانة لهم/ن، أولئك الذين/اللواتي يتعرضون للتهديد لأنهم لا يتناسبون ظاهريًا مع معايير رجولية أو أنثوية محددة.