لا يمكنك أن تتمنّي لو أنّك ولدت في حقبة أفضل من هذه، حين فقدنا كل شيء.
سيمون فايل
أخيرًا أغمض عينيّ. لست نائمًا ولكن عيناي مغمضتان. بالكاد طلع الفجر، تطفو بقع ملوّنة في الداخل، غير واضحة. أنا أسمع كل ما يتحرّك، كل ما يتنفّس. كل شيء. سمعي لا يفوته شيء. المولّدات الكهربائية المختلفة في الحيّ، صفير غلّاية، أزيز ذبابة تستفزّني، سيارة تبتعد، أخرى تقترب، أبواق بعيدة، طائرة ركاب تمرّ فوق، نباح كلب حاد وأجش، سجادة تتعرّض للضرب، صرخة صفارة إنذار، الهدير الدائري الدائم المتكرر لطائرات الجيش الإسرائيلي، منشار كهربائي، المادة التي تستسلم، رنين هاتف، بعض أنغام بيانو، جارة تنادي الناطور وتصرّ، مسلسل تلفزيوني مُدبلج، آهات، أنغام البيانو التي تعود وتحاول الانطلاق، القطة التي تسير على أعلى ظهر الأريكة، فوق رأسي الأصلع، والتي تربّتني بقائمتها من دون أن تخرج مخالبها، دعوة المؤذن الثالثة أو الرابعة إلى الصلاة، ثم الهوة.
لا بدّ أنني فتحت عينيّ فجأة ـ ما عدت أدري. وجدت نفسي في الشارع، في تلك الشوارع والساحات نفسها المغزوّة في الخريف الماضي، كدت أن أكتب «المحرَّرة». ولكن لا أحد غير، لا الرفاق ولا المترددون ولا البائسون ولا الخيام المنصوبة ولا هذه القبضة العملاقة ولا هذا العلم الاستعراضي ولا الشرطة ولا العسكر ولا الوشاة ولا الغاز ولا الحساسيات ولا سيارات الإسعاف. وحدها الكتابات الجدارية والجدران وكتل الإسمنت والأسلاك الشائكة وجسدي الجامد. وهذا المنشور عند قدميّ، المقلوب، المجعد.
جاءت سحابة تريحني بظلّها. تدريجيًا، راحت تكسو وسط المدينة المفترض هذا. كانت تتحرك ببطء، بثقل. رفعت رأسي أخيرًا. للوهلة الأولى، لم يكن هناك أي شيء مميز. يبدو أن إحدى ناطحات السحاب كانت قد حجبت الشمس، صخرة عملاقة داكنة منتصبة. لكن الهواء. كل جزيئة، كل ذرة، تقريباً. بالكاد مرئية. للحظة ظننتها غبارًا. لم تتحرك أيضًا. لم تتحرك إلا عندما بدأت أنا أتحرك. كأنها رافقتني، كأنني كنت جزءًا منها. كنت قد ترددت للانحناء ولقلب المنشور، قليل من الأحمر والأسود كان ظاهرًا. كنت قد ترددت أيضًا لاختيار الاتجاه الذي أسلكه. لكن خطواتي قررت عني، إنما لم تأخذني بعيدًا. عبرت مرآبًا عامًا شاسعًا فمرآبًا آخر، حيث سيارة واحدة، حتمًا مهجورة، إطاراتها الأربعة فرغ هواؤها بالكامل وعلى زجاجها الخلفي، كُتب بيد خرقاء «كلّن»، والبحر الذي امتدّ خلف أسلاك شائكة أخرى. هناك رست باخرتان توأمان جنبًا إلى جنب، زرقاء وبيضاء، أزرق الكوبالت. لم تحملا أي راية. هل كان لهما اسم؟ هل من الضروري أن تحمل المراكب اسمًا؟ بدت الباخرتان سالمتين، براقتين. كانت مقدمتهما تواجهني. كم هي مهيبة ومطمئنة هذه السفن الراسية ، فكيف بسفينتين متشابهتين جنبًا إلى جنب. عملاقان ممدّدان. يكاد المرء ينسى ما بانتظارهما. كنت قد بقيت على مسافة، فصل الطريق بيننا، خمسمئة متر أو لربما ثمانمئة.
كانت الجزيئات والذرّات أصبحت سميكة، واتخذت شكلاً أقل تجردًا ولكنها بالوقت ذاته لم تكن تشبه شيئًا. بدت وكأنها تنتظرني. مددت يدي، يدي اليسرى على ما أظن. لوّحت بها بشكل سخيف بعد حين. لكنها لم تبرز أي رد فعل. نقاط ثابتة بشدة. كذلك الشمس خلف ناطحة السحاب. كذلك التوأمان والحوض الذي رسيا فيه، من حولهما وما وراءهما، الأفق، على مدّ النظر، أي كيان. كل شيء ثابت بعزم. ما عدت أعرف إن كان علي الضحك أم أن أرحل بكل بساطة. كان لدي الخيار، الاتجاه غربًا أم العكس، شمالاً، أو العودة أدراجي.
قلت لنفسي إن الناس سيبدأون حتمًا بالظهور، ولو واحداً تلو الآخر. كل ذلك سيضمحلّ، محال أن يحصل غير ذلك. في تلك اللحظة بالتحديد سمعت ذاك الصوت البعيد. دام بضعة ثوان. بضعة ثوان أخرى وتكرّر. كان لا يزال بعيداً ويدوم الوقت ذاته. لم تكن صرخة. تكرّر من جديد بعد بضعة ثوان. ومن جديد. وأيضًا. كرقّاص الإيقاع. عجزت عن تمييز هذا الصوت، طبيعته. فوق، كانت السماء قد تجمّدت بين النهار والليل. لم تنقلب صوب أي منهما. لم تستطع. كان البحر مرآتها.
بعد المرة التاسعة فقط أدركت أنه يقترب. الإيقاع ذاته، الوزن ذاته. صوت بشري حتمًا. جوقة؟ لربما كان تناغماً. اقترب ببطء شديد. هل كانت كلمات يتم هتافها، ترافقها طبلة؟ لكل كلمة، لكل لفظة، ضربة. استطعت أن أعدّها، لكنني لم أميّز الكلمات، ليس بعد. هي لم تنفكّ تقترب.
عند الاحتكاك فقط ينكشف الصديق والعدو. الوضع السياسي لا ينبع عن قرار واحد، بل عن تصادم أو تآلف عدة قرارات. الذي ينطلق من القريب لا يتخلى عن البعيد، بل يعطي نفسه فقط فرصة لبلوغه. لأن البعيد يُعطى دوماً من هنا ومن الآن. البعيد يؤثّر بنا ونقلق لأجله من هنا دوماً. اللجنة الخفية، الآن.