كثيرون هالهم أن تقوم رئاسة الجمهوريّة، بالتواطؤ والتفاهم مع الرئاستين الثانية والثالثة، بتقديم التنازل الأخير في ملفّ المفاوضات على حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة للبنان.
بمقابلة صحفيّة، قرّر عون التسليم بالخطّ 23، بدل الخطّ 29، كأساس لتفاوضه على حدود هذه المنطقة، ما أفقد الوفد اللبناني القدرة على التفاوض على 1430 كلم مربّع من المياه البحريّة الحدوديّة. لفهم قيمة هذا التنازل، تكفي الإشارة إلى أنّ هذه المنطقة بكل ما فيها من حقول غاز محتملة، توازي بمساحتها 14% من مساحة لبنان البريّة.
حصيلة مسار من الأخطاء
لكنّ أفظع ما في مقاربة الدولة اللبنانيّة لملف حدودها البحريّة لم يكن هذا التنازل الأخير. لا بل يمكن القول إنّ هذا القرار لم يكن سوى حصيلة سلسلة من القرارات العشوائيّة والغوغائيّة التي أعطت طوال العقدين الماضيين تمريرات لا تُحصى للإسرائيليين، وأفقدت لبنان الكثير من أوراق التفاوض الثمينة. في بعض الأحيان، كان «التخبيص» مجرّد نتيجة للفوضى التي تحكم أداء الدولة اللبنانيّة في جميع ملفّاتها. أمّا في أحيان أخرى، فكانت هذه القرارات نتاج مساومات متعمّدة.
2007: خطيئة الترسيم مع قبرص
بخلاف ما يعتقد كثيرون، لم يكن الخط رقم واحد الذي يمثّل اليوم أقصى ما يفاوض لأجله الإسرائيليّون، نتاج أفكار أو خطط الإسرائيليّين أنفسهم.
فسنة 2007، حين بدأت المفاوضات بين لبنان وقبرص لترسيم الحدود البحريّة بين الدولتين، استعانت الدولة القبرصيّة بوفد معتبر من خبرائها المتمرّسين في مجال الترسيم البحري، فيما اعتمد لبنان على عدد محدود من المهندسين الذين لم يمتلكوا خبرة أو تقنيّات التفاوض على هذا النوع من المسائل. أفضت المحادثات اللبنانيّة القبرصيّة يومها إلى ترسيم مجحف للحدود بحق لبنان، مع اعتماد الخط رقم واحد نفسه كحدود بحريّة بين لبنان وفلسطين المحتلّة، وهو ما اقتطع مساحات واسعة من المنطقة البحريّة الخالصة الخاصّة للبنان.
استغلّت إسرائيل منذ ذلك الوقت هذا الخطأ اللبناني القاتل، فاعتمدت الخط رقم واحد الذي جاء من بنات أفكار المفاوضين اللبنانيين والقبرصيّين أنفسهم، خصوصًا بعدما أبرمت الحكومة اللبنانيّة اتفاقيّة ترسيم الحدود هذه رسميًّا عام 2007.
ومنذ ذلك الوقت، ولِد الخلاف الحدودي الشهير.
2010: التصحيح الغوغائي
فهم لبنان لاحقًا فداحة الخطأ الذي جرى.
امتنع مجلس النوّاب عن المصادقة على اتفاقيّة ترسيم الحدود مع قبرص. لكن عوضًا عن الذهاب إلى تثبيت الحدود البحريّة بحسب المعايير التي تحفظ حق لبنان، لجأت الحكومة اللبنانيّة سنة 2010 إلى إيداع الأمم المتحدة ترسيماً آخر للحدود الجنوبيّة، يعتمد الخط رقم 23. هذا الخط الذي لا يستند إلى أي معيار قانوني أو علمي، زاد على المنطقة الاقتصاديّة الخالصة ما يقارب الـ860 كلم مربع مقارنةً بالخط السابق، لكنّه حرم لبنان من أكثر من 1430 كلم مربع من المياه البحريّة التي يفترض أن تكون من حقّه.
في واقع الأمر، يشير كثيرون إلى أن هدف «اختراع» الخط 23 على عجل، ومن ثم المصادقة على هذا الترسيم في مجلس النوّاب، رغم عدم استناده إلى أي معيار واضح، لم يكن سوى لمحاولة تحسين الوضع التفاوضي للبنان، بعد خطأ العام 2007.
لكنّ هذه المقاربة العشوائيّة للملف، أفضت إلى تكوين خط آخر مجحف بحق الدولة اللبنانيّة، تمامًا كما جرى العام 2007.
عون يسلّم بالخطأ
لم يفهم المسؤولون في لبنان فداحة الخطأ الذي تمّ ارتكابه إلا بعد صدور دراسات استشاريّة هندسيّة أعدّها الجيش اللبناني وشركة استشاريّة خاصّة، حدّدت الخط 29 كنقطة التفاوض الأساسيّة التي يفترض أن ينطلق لبنان منها لترسيم حدوده الجنوبيّة. ورغم مبادرة حكومة حسّان دياب إلى إقرار مرسوم يقضي بتعديل حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة الجنوبيّة ليتم التفاوض مع إسرائيل على أساس هذا المرسوم، لم يقم رئيس الجمهوريّة منذ ذلك الوقت بتوقيع المرسوم أو الاعتراف به كنقطة انطلاق للتفاوض.
باختصار، ساوم عون على حق لبنان في حدوده الجنوبيّة.
كان بإمكان اعتماد الخط 29 بشكل رسمي أن يزيد الضغط على المفاوض الإسرائيلي، لكونه يشمل حقل كاريش البترولي من ضمن المنطقة المتنازع عليها، وهو ما يعني عرقلة استثمار هذا الحقل من قبل الإسرائيليين.
أمّا بعد تراجع رئيس الجمهوريّة إلى الخط 23، فبات حقل قانا من ضمن المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، ما يفتح باب مطالبة إسرائيل بتقاسم عائدات هذا الحقل.