ماذا جرى أمس في شارع الحمرا؟
سمِّه ما شئت: دوغمائية، فوضى، حرب، خيال علمي… هذا لن يلغي حقيقةً واحدة: المصارف معركةٌ أولى في الثورة اليوم، وواجهةٌ لصراعٍ طبقيّ يخرج من جلدته. هذا فصلٌ حاسم انتظرناه طويلاً. ساهم في رسم مشهده ثائرون متنوّعو الهويات والفضاءات والأفكار. ورغم أنّنا لا يمكننا الفصل بينهم، كما حاول البعض أن يفعل، عبر ما تفوّه به بعضهم أو ما ارتداه بعضهم الآخر (شعارات أناركية ورسوم يسارية واشتراكية)، فإنّهم على توزُّعهم فرقاً وملثَّمين يشكّلون لبنة القوى الميدانية لحركة أوسع من الشعاراتية والفلكلورية الشفهية في الاحتجاج. لقد دخلنا منذ الأمس مرحلة تغليب الفعل على الحكاية.
انضمّ إلى هذه الفرق فقراء حزبيّون. صرخ بعضهم بأسماء زعمائهم أمام شاشات النقل المباشر، لا سيّما باسم وجهَيْن من زعامتَيْن لزعامة واحدة، هي سلاح حزب الله. لكن، وهنا النقاش طويل وصحي، عادت الثورة لتجذب في معاركها هوامش ما كانوا غرباء في الأصل عنها. هذا ما يسمى بـ«لامركزية» الثورة وتحمّلها أضداد التنازع، وشموليتها في تعدّد أصواتها وأهدافها وحراكاتها وخطوطها. الثورة ليست «بروبزيل» لمشروع أحاديّ ولجمهور يتّفق على كل شيء. هي هذا المزيج المتمايز عن بعضه بعضاً، وهي نزعته إلى الانصهار ضد سلطة ما. حتى لو كان هؤلاء خانعين في طوائفهم، فإنّهم خارجون من طبقة مسحوقة. طبقة رأيناها أمس بوجهها الغاضب غير متسامحة مع قيود المصرف وحبس الأموال في طبقة دون أخرى. وهنا لبّ الصراع ومظهره.
هؤلاء، وكي نسمّيهم كما يحبّ البعض «شيعة الخندق وبرج أبي حيدر»، نزلوا في بداية الثورة وانسحبوا. خائفين ومترددين. بعضهم نزل وحطّم واعتدى على الثوّار، مأمورين وُمسيَّرين. بعضهم عاد إلى الخطوط الأولى كما في الأمس، بنيّاتٍ مختلطة ربّما وكما يفترض البعض بأوامر أحزابهم، لكنّ الظاهر أنهم نزلوا أيضاً لأسباب تتقاطع مع معركتهم ومعركتنا ضد المصارف التي تذلّنا وتذلّهم وتذلّ أهلنا وأهلهم. مواطنون وجدوا أنفسهم منذ 90 يومًا يتسوّلون أموالهم أمام أبواب المصارف، حارسة هذا النظام وطبقته. طوابير ملغومة بالغضب.
هؤلاء من بنية الثورة، وجزء أساس في فهم أسباب اندلاعها وتفاقمها وتعدُّديّتها. لم يعد مسموحاً فرض أي «إيتيكيت» ثوري في كيفيّة تعامُل الثوّار مع زمرة الأوليغارشية الحاكمة والمتماسكة والمتضامنة قلباً وقالباً. وما قرأناه مكتوباً ومنشوراً على مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل: أنا خط أحمر والتكسير لا يمثّل الثورة، ليس إلا خطاباً رثّاً تُتقنه زمر المجتمع المدني، وطبقة متوسّطة خائفة على ثرواتها الصغيرة أو شلل البورجوازية.
ما حصل أمس ليس عنفاً، ولا يرتقي في الأصل إلى مصاف العنف. هو مجرّد تفاعُل بين عدّة مكوّنات من الثوّار أمام لحظةٍ ممكنة الحدوث، هي لحظة ممارسة الاحتجاج بعد فُرصٍ عديدة أُعطيَتْ للمصارف التي تحتجز أموال الناس. صار من حقّ هذا المواطن أن يحطّم الزجاج السميك ليوصل رسالته. فهذه أداته الوحيدة ضدّ حالة العجز والإخضاع المفروضة عليه. ما رأيناه هو فعل ثوري وليس انتقاميًّا، كما يروّج البعض، خصوصاً مناصري تيار المستقبل وفلول 14 آذار ومجموعات من الأن. جي. أو. القريبة من هندسيّات سوليدير.
ما حصل أشبه بالخرمشة. وهي خرمشة رمزيّة للتدليل على أنّ عدوّنا الأوّل والأساس هو هذه الطبقة الممثَّلة بالمصارف. هو ممارسة حرّة وحقّة في التثوير حتى لو أخذت حيّزاً عنيفاً في المستقبل القريب. نحن نمارس ثورةً انطلاقاً من حساسية طبقية قبل أيّ شيء آخر. لذا رأينا مشاهد الأمس بهذه الرعونة، وبخليط أناركي- اجتماعي- ثقافوي- شعبي يتجاوز في تحرّكه سلطة المصارف وتسلّطها، وخرج غالباً من سطوة التسلّط الحزبي ليحقّق تقارباً نسيجياً ثورياً من دون العودة إلى العصبيّات. ما حصل ليس من مسؤولية المواطن والثوّار، بل يقع أوّلاً على عاتق طبقة الأوليغارشية وإمبراطورياتها من مصارف وحكومة ووزارات ومجلس نواب وأحزاب ونقابات ووسائل إعلام وصحف وقوى أمن وجمعيات، هدفها البقاء حتّى آخر نفس.
تسمع أحدهم يهتف عبر شريط فيديو: «بدنا ننيك أخت المصرف». تقول في نفسك: ها قد نكناه. وجاهزون للخطوة التالية.