مأزق الردّ والهروب نحو الداخل
لا شكّ أن حزب الله وإيران في مأزق حيال كيفية الردّ على الاغتيالات التي طالت القياديَّيْن اسماعيل هنيّة وفؤاد شكر، في ظل الجنون الإسرائيلي ورغبة نتنياهو بتوسيع الحرب. ورغم تأكيد نصرالله على حتمية الردّ في خطابه الأخير، فقد باشر عمليةَ تحييد حلفائه بالمحور من تبعات هذا الردّ، مؤكدًا مثلًا أنه ليس مطلوبًا من سوريا أن تدخل في المعركة نظرًا إلى ظروفها. فالردّ سيكون لبنانيًا وتبعاته ستكون على لبنان.
ومع تحديد ساحة المعركة، وفي ظلّ الضغوط السياسية والعسكرية التي يتعرّض لها حزب الله، كان الأجدى بقائده أن يأخذ بالاعتبار «ظروف» لبنان السياسية على الأقلّ، كما أخذ في الاعتبار «ظروف» سوريا العسكريّة، ويوجّه رسالة تُنشد الوحدة بين اللبنانيين في مواجهة العدوان الإسرائيلي. لكن بدلاً من ذلك، أمضى نصرالله جزءا من خطاب الاحتفال التأبيني للقائد العسكري فؤاد شكر في مهاجمة خصومه الداخليين. فهاجم المعترضين على حزبه، محذّراً إياهم: في الحد الأدنى لا تطعنوا المقاومة في ظهرها، لا تشاركوا في الحرب النفسية التي يخوضها العدو على مجتمع المقاومة في لبنان وعلى بيئة المقاومة في لبنان، كما تفعل الآن بعض الفضائيات العربية واللبنانية. ومن بعدها، استكمل هجومه على المعارضة السورية، بشقّيها العلماني والإسلامي، متّهماً إيّاها بالعمالة. الغريب أن يستفيق نصرالله اليوم على المعارضة السوريّة المهزومة في الوقت الذي يبدو فيه نظام الأسد غائباً عن السمع منذ بداية العدوان على غزّة.
لم تكن المرة الأولى التي يهاجم فيها نصرالله أو أصوات من حزب الله أطرافًا لبنانية على خلفية الحرب. ففي خطاب تشييع شكر، نفى نصرالله صفة البشر عن خصومه: هناك من هو مستعدّ ليعمل على إضعاف المعنويات، هؤلاء السفهاء والسفلة، يترقبوننا على مدار الساعة «أين رديتم وماذا فعلتم ومتى تريدون الرد» هؤلاء دعوهم جانباً، هؤلاء أصلاً ليسوا بشراً ليُحسبوا في حسابات البشر، لأن طوفان الأقصى كشف عن مستوى من الناس كشف أنهم ليسوا بشراً، وإنما شيء آخر على المستوى الأخلاقي والنفسي. وقبل هذا، كان محمد رعد، رئيس الكتلة النيابية لحزب الله، قد انتقد اللبنانيين الذين يرتادون المسابح والملاهي. أمّا نواف الموسوي، فخوّن فئات واسعة من اللبنانيين، مهدداً إياهم باللعبة الديموغرافية.
في وجه التوحّش الإسرائيلي وصعوبة الردّ أو تحضيراً له، لم يجد نصرالله غير تخوين فئات واسعة من اللبنانيين والسوريّين وتأكيد مخاوفهم بأنّ الحرب الخارجية ليست إلّا مدخلًا نحو مواجهة داخلية قادمة.
الحرب تقسم
يأتي موقف نصرالله في لحظة لم يعد يستطع فيها حصر الحرب وتبعاتها في القرى الأماميّة من الجنوب، أي اعتبار أن لا رأي فيها لباقي اللبنانيين. فمن المعروف أن قرار الردّ بيد حزب الله الذي اعتبر في بداية الحرب أنه يمكن للبنانيين خارج مناطق النزاع، والتي يعتبرها أصلًا «مناطقه»، أن يكملوا حياتهم وكأنّ لا حرب في البلد، حتّى لو وبّخهم محمد رعد. لكنّ هذه المعادلة انتهت لتتحوّل الحرب، أو تهديد الحرب، إلى موضوع سيتحمّل تبعاته جميع اللبنانيين. فشاهدنا في الأسابيع الأخيرة رحيل المغتربين، على وطأة بيانات السفارات وتحذيرات شركات الطيران، كما شاهدنا بداية حركة نزوح داخلية. وهذا ليس إلّا الجزء الظاهر من التبعات الإنسانية والاقتصادية للحرب.
لكنّ المسألة ليست في الفارق بين من يقرّر الحرب ومن يتحمل عواقبها وحسب. فالحروب، بغياب سياسات تواكبها، سيرورة اجتماعية تفاقم انقسامات المجتمع. فالرحيل محدّد بالإمكانيات المادية، بين من لا يزال يستطيع الرحيل من المطار ومن سيضطر إلى أخذ الباص إلى الأردن. كما أن النزوح الداخلي أيضًا يتبع الانقسامات الطبقية، بين من يستطيع دفع إيجار ومن سينتظر مدرسة لاستقباله وعائلته. والكلام ذاته يمكن أن يقال عن آثار الأضرار أو تبعات الحرب. وهذا يأتي ليفاقم أزمة اقتصادية عمّقت أصلًا الانقسامات داخل المجتمع.
في وجه هذا الاحتمال، وخاصة بعدما بات موضوع الحرب وسلاح حزب الله الموضوع القاسم الأول في السياسية، لم يجد حزب الله إلّا تعميق الفجوة بين اللبنانيين أكثر. ولن تكفي خطة الحزب للنازحين والاتكال على بيانات الأحزاب الحليفة لتؤمن شروط نزوح كريمة أو لتسدّ الفجوة العميقة التي خلقها حزب الله، والتي ستعمّقها الحرب وتهديداتها. فإذا كان المطلوب في هذه اللحظة بعض التكاتف والتضامن، فإنّ الكلام الأخير لنصرالله لا يساعد على ذلك.
غياب أيّ سياسة حكوميّة
كان من الممكن التخفيف من وطأة ذلك لو أدّت الحكومة اللبنانية الدور المتوقّع منها في ظروف كالتي نعيشها. فمن بديهيّات الحروب أن تُعنى الحكومة والسلطات الرسميّة بتهيئة ما يُعرف بالجبهة الداخليّة، أو ما يُعرف بمقوّمات صمود المجتمع خلال فترة الحرب. يشمل ذلك ضمان إمدادات الكهرباء والمياه والاتصالات والاستشفاء، وغيرها من الحاجات الإنسانيّة الأساسيّة. كما يشمل التعامل مع مسائل ذات أبعاد أمنيّة، مثل تحديد الممرّات والمناطق الآمنة وسيناريوهات التصعيد، وترجمة ذلك بالتعليمات المناسبة للمواطنين.
وضعت الحكومة اللبنانية في بداية الحرب خطّة طوارئ وطنيّة، كان من المفترض أن تتناول كل هذه الجوانب. وخلصت الخطّة إلى توزيع كل هذه المهام على الوزارات المختلفة، بالتنسيق مع المنظمات الدوليّة المعنيّة بالشأن اللبناني. لكن، كما كان متوقعًا، لم تُترجَم الخطّة بخطوات عمليّة على الأرض. بل إنّ الحاجات الأساسيّة التي كان يفترض أن تضمنها الخطّة خلال الحرب، بدأت بالانقطاع لأسباب لا علاقة لها بالأعمال الحربيّة. فنقص الفيول مثلّا، بسبب غياب التمويل، أدّى إلى تعطيل معامل الكهرباء مرّات عدّة خلال الأشهر الماضية، وكان آخرها هذا الأسبوع بالتحديد. وتلى ذلك، بطبيعة الحال، انقطاعات في عمل مؤسسات المياه والاتصالات الأرضيّة.
الإشكاليّات التي تحول دون أن تلعب الحكومة هذا الدور متعدّدة الأوجه. فالحكومة، أوّلًا، لا تملك القرار السياسي الذي يسمح لها بلعب دور أمني، بحجم تحديد مناطق أو ممرّات آمنة، من ثم تمييزها عن المناطق المشمولة بالأنشطة العسكريّة. وهي لا تملك حتى هامشًا لاتخاذ قرار بحجم جرد الأماكن الشاغرة والمتاحة للاستخدام، من قبل النازحين، بل تُركت هذه المسألة لمبادرات الأحزاب السياسيّة المحليّة التي أخذت على عاتقها التنسيق مع الثنائي الشيعي لهذه الغاية.
وأخيرًا، لا تستقيم الأولويّات الماليّة الراهنة للحكومة مع مهمّة بحجم الإنفاق على خطّة طوارئ دفاعيّة من هذا النوع، بما تستلزمه من مقوّمات لضمان عمل البنية التحتيّة في لحظة التصعيد. ورغم توفّر الإيرادات لهذه المهمّة حاليًا، تبقى السياسة العامّة للحكومة متّجهة للتقشّف الحادّ، وهو ما يتعارض مع فكرة الإنفاق لأيّ أولويّة اجتماعيّة أخرى. وبهذا الشكل، يبقى الخيار الأنسب للحكومة الاتكال على التضامن المجتمعي العفوي والتلقائي، أو مبادرات التنظيمات السياسيّة والمحليّة، أو حتّى إمكانات المواطنين الماليّة الفرديّة، لتأمين الصمود خلال فترة التصعيد المحتمل.
بكلام آخر، تأتي الحرب والمجتمع متروك لينظم الردّ بإمكانياته المحدودة، في ظلّ خطابات تخوين تعمّق الانقسامات السياسيّة.