منذ اغتيال رئيس حركة حماس، اسماعيل هنيّة، في طهران، واغتيال القائد العسكري في حزب الله، فؤاد شكر، دخل اللبنانيّون- ومعهم شعوب أخرى- في مرحلة انتظار ثانية. انتقلنا من مرحلة «الإسناد» واحتمالات تطوّرها إلى حرب بين لبنان وإسرائيل، إلى مرحلة انتظار الردّ الإيراني و/أو الحزباللهي واحتمال استدعائه ردّاً إسرائيلياً قد يتطوّر إلى حرب أو أيّام قتاليّة قد تقصر أو تطول. فبأيّ عدّةٍ يواجه لبنان هذه المرحلة الجديدة؟
المقاومة
منذ الثامن من أكتوبر، اعتمد حزب الله قاعدةً ثلاثيّة:
أوّلاً، قوّة الردع
تعمّد حزب الله إظهار قوّة الردع التي بناها منذ حرب تمّوز 2006 في سبيل تفادي أيّ عدوان جديد على لبنان. ارتأى الحزب فتح جبهة الإسناد لا لإسناد غزّة وحسب، بل كوسيلة أيضاً لمنع إسرائيل من فتح جبهة جديدة، حتى لو لم يوافقه الجميع على دور «الإسناد». ومع التطوّرات الميدانيّة، عمد حزب الله إلى رفع مستوى الأسلحة المستخدمة، ثمّ إلى استعراض ما عادت به مسيّراته من رصد لأهداف إسرائيلية كما ظهرت في فيديوهات «الهدهد»، وصولاً إلى الفيديو الأخير الذي يُظهر منشأة عسكرية وصفتها قناة «المنار» بأنّها «بحجم مدينة وليس معلوماً أين تبدأ وأين تنتهي وبماذا تتّصل»، وتدلّ على حجم القدرات الصاروخية لدى الحزب.
ثانياً، التعقُّل
منذ خطابه الأوّل بعد «طوفان الأقصى»، سعى الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، لإبعاد حزبه عن صورة التهوّر وردود الفعل السريعة. حتّى أنّ كثيرين تساءلوا أين كانت هذه «الحكمة» حين وظّف الحزب قدراته العسكريّة وشبابه للدفاع عن النظام السفّاح في سوريا. ومنذ اغتيال القياديّ شكر، ونصراللّه يكرّر بأنّ الردّ آتٍ حتماً لكنّ المقاومة تتحلّى بالصبر والعقل، وأنّ الردّ سيكون مدروساً ولن يكون انفعالياً، بل سيتصرّف الحزب برويّة وتأنٍّ.
ثالثاً، رسالة إلى الداخل
حرص نصرالله في خطابه الأخير على طمأنة الداخل اللبناني بأنّه لا يجدر الخوف من انتصار المقاومة، بل من هزيمتها. لكنّ هذه الرسالة بدت أقرب إلى طمأنة المتضامنين والمتردّدين أكثر من الخصوم. ذلك أنّها اقترنت بكلامٍ قاسٍ تجاه الخصوم وصل إلى حدّ نزع إنسانيّتهم، كما تناست استثمارات سابقة لانتصارات المقاومة في الداخل اللبناني، من حرب تموّز إلى قمع الثورة السوريّة. وفي جميع الأحوال، يبدو اللبنانيّون خائفين اليوم من الحرب نفسها، أكثر من خوفهم من الانتصارات أو الهزائم.
الدولة
إذا كانت هذه هي حال المقاومة، فإنّ حال الدولة تبدو مختلفة تماماً.
هناك أوّلاً، رئيس المجلس النيابي.
هو يفاوض باسم الدولة كلّها، لكنّه في الواقع يفاوض باسم الثنائي. لا يعود ذلك إلى كونه رئيس حركة أمل وحسب، بل إلى كون المفاوضين ليس لديهم أصلاً ما يفاوضون الدولة عليه.
هناك ثانياً، رئيس الحكومة.
هو مستسلم تماماً لقدره. في الأيّام الأولى التي تلت «طوفان الأقصى»، ذكّر بأنّه لا يملك قراراً لا بالحرب ولا بالسلم. وفي الأيّام الأخيرة، سلّم بأنّ ما يملكه هو الصمت والصبر والصلاة. أمّا خطّة الطوارئ التي كانت قد وضعتها حكومته، فاستقرّت في النسيان.
هناك ثالثاً، الوزراء.
دخل معظم الوزراء في إجازةٍ مدفوعة حتّى إشعار آخر. أمّا المداومون منهم، فحالتهم يرثى لها.
وزير الخارجيّة: أبلغنا أنّ الجيش اللبناني لن يقاتل أحداً. تمنّى على حزب الله أن يكون ردّه من النوع الذي لا يجرّ حرباً. ثمّ تلعثم في صياغة التعبير عن الوحدة بين الدولة والمقاومة في مواجهة إسرائيل: الدولة مع حزب الله… حزب الله مع الدولة… الدولة وحزب الله معاً…
وزير الأشغال: أبلغنا أنّ الدستور يمنحه صلاحيّة تقرير وجهة إنفاق أموال وزارته، وهو لن يتردّد في إنفاقها لتلبية كلّ ما يطلبه أهل الجنوب، ذلك أنّ «شمس الكرامة» تشرق من جنوب لبنان. وإذا كان من واجب وزارة الأشغال فعلاً تخصيص جزء كبير من مواردها للجنوب الذي يتعرّض للعدوان، فإنّ نبرة الوزير وتعابيره لا توحي بأنّه ممثّل الدولة الجامعة التي ترغب في أن تعطي أهل الجنوب حقّهم، بقدر ما بدا الوزير وكأنّه يتحدّى سائر اللبنانيين.
وزير الثقافة: أعطته الحرب إجازةً من إجراءاته القمعيّة في الرقابة والمنع. لكن لا يمكن تناسي أفضاله في الأيام الأولى بعد «الطوفان» حين قرّر نزع شعار «الدرع الأزرق» عن قلعة بعلبك، وهو الشعار الذي كان قد وُضِع على الجدار الخارجي للقلعة عملاً بالاتفاقية الدولية لحماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلّحة.
اللبنانيين
لندع جانباً الخوف من الحرب الذي يصيب غالبيّة اللبنانيّين. لندع جانباً أيضاً المغتربين الذي اضطرّ كثيرون منهم لقطع إجازاتهم والعودة السريعة إلى بلدان الاغتراب. ولنركّز على أهل الجنوب النازحين وما يواجهونه حتى خلال نزوحهم إلى قرى جنوبيّة أكثر أماناً.
لنتمعّن في بيان رئيس بلدية عيتا الشعب الذي اضطرّ، بعد الاعتداء على إحدى عائلات البلدة النازحة إلى بلدة طورا، للتذكير بأننا في بلدتنا نسكن بيوتاً ونملك أرزاقاً ولسنا حفاة، وكفى تعنيفاً بأهلنا الشرفاء. لنقرأ بيان بلدية فالوغا الذي يمنع تأجير أيّ منزل قبل الحصول على موافقة مسبقة من أجل تلافي حصول أيّ حادث من أيّ نوع كان يؤدّي إلى ضرب الأمن والاستقرار. لنستمع إلى الذين يدعون علناً إلى عدم استقبال النازحين. ولنستمع إلى النازحين الذين يروون قصص عدم الترحيب بهم.
لا يستدعي كلّ هذا استنكاراً. فما نراه ونسمعه ليس إلا عارضاً لمسألة أكثر عمقاً، ومؤشّراً لانقسام ساهم الجميع في توسيعه.