مرّ أسبوعان على جريمة انفجار بيروت. ركبت سيارتي وذهبت إلى هوفلان، الشارع العريق في بيروت القديمة. فهذا الأخير يقدّم لي دائماً بصيصاً من الأمل عند المصاعب. فهو الشارع الذي عرف الشهيد فرج الله حنين، طالب الحقوق في الجامعة اليسوعية الذي استشهد من أجل إنشاء الجامعة اللبنانية. وهو الشارع الذي عاين نضال الشهيد سمير قصير وطلاب «انتفاضة الاستقلال» العام 2005 بوجه قمع النظام الأمني السوري- اللبناني. وهو الشارع الذي شاهد مسيراتنا الطلابية خلال انتفاضة 17 تشرين، واستقبل مند سنتين- عند دخولي إلى كلية الحقوق- أفكاري التقدّمية التحرّرية دون قيود.
عند وصولي إلى الأشرفية، كان العسكر منتشراً في كلّ مكان، بين كلّ المنازل، على كلّ الأرصفة، في كلّ الشوارع، حتى الضيّقة منها: لقد أعلنت السلطة حالة الطوارئ العسكرية، وهي تقوم بتنفيذ مهمّتها الخطيرة، لا في مساعدة الأهالي بأعمال الإغاثة، إنّما في مراقبة مَن يتجوّل بين أحياء بيروت.
دخلت شارع هوفلان فوجدت عدداً كبيراً من العسكر. تفاجأتُ لأنّ هذا الشارع لا يضمّ سوى الجامعة اليسوعية ومقهى كان يقصده الطلاب في ساعات الفراغ، وكلاهما مغلق. فما الذي كان يفعله العسكر في هوفلان؟
مضيت بسيارتي إلى آخر الشارع: ركنتها ورحت أتأمّل جدران هوفلان التي دوّن عليها طلاب 17 تشرين عبارات تحرّرية خلال الانتفاضة، فتوقفت أمام عبارتَيْ لا للقمع وتسقط الأنظمة والتقطتُ صورةً. وأمام غرابة هذا المشهد، اقترب عسكريّ رآني من بعيد، فسألني مستنفراً- بعدما قرأ العبارتين- عن سبب التقاطي الصورة. فجاوبته: انا طالب في هذه الجامعة، وجئت لأتفقّد الشارع.
لم يكترث العسكريّ لما قلتُه، بل سألني إن كنتُ وراء تدوين تلك العبارات: نفيت. فطلب منّي أوراقي الثبوتية. تذكّرت حينها مقالاً كتبه الشهيد سمير قصير العام 2001 تحت عنوان عسكر على مين أيّام الوصاية السورية على أثر مشاهد رآها في الميدان، لا سيما في هوفلان. روى قصير في مقاله كيف شاهد عسكريّاً يفتّش كتاب «القانون المدني» لطالب حقوق، فقط لأنّ العسكريّ لم يعجبه أن يرى الطالب نفسه مرّتين. تساءلْتُ في نفسي: هل يشعر العسكر بالحنين تجاه ما كان يفعله في هوفلان قبل 20 عاماً؟ فيمشي بين مباني هوفلان متمنياً أن تعود تلك الأيام حيث كان فائض القوّة بيده، فيُعسكر على المواطنين دون تبرير؟
بعد 20 عاماً، تبدو المشكلة نفسها مثلما صوّرها سمير: ليست في الضابط الشاب، إنّما في من عبّأ رأسه من أجهزة ونظام لا يرى في الدولة سوى مساحة لتنفيذ مهمّة الأمن والسلطوية- التي يتشاركها في بعض المناسبات مع ميليشيات وبلطجية أحزاب السلطة.
أرتجف حقّاً وأنا أكتب عن هوفلان: هذا الشارع الذي عرف طلابه ظلم النظام البعثي وأدواته الداخلية إبّان الوصاية، هو اليوم- مثل كل شوارع بيروت- بخطر. نحن نعيش في دولة لا تنتظر لحظةً واحدةً كي تستغل آلام الناس لتحقيق أهدافها السادية وتعلن حالة طوارئ غير مبرّرة. نحن نعيش في دولة لم تنتظر لحظةً واحدةً كي تشرّع وظيفة الأجهزة الأمنية بـ«تصحيح» ضمائر الناس وأفكارهم.
البارحة، أرادوا تصريحاً كي يسمحوا للصحافيين بالتصوير؛ واليوم، يقفون أمام الناس ويبتزّونهم في شوارع بيروت المدمّرة بفرض فائض من القوّة الزائفة لإقناعهم بأنّ الدولة لم تسقط قط. لكنّ الدولة سقطت. وهناك من سيقف سدّاً منيعاً بوجه العسكرة مثلما وقف سمير قبل 20 عاماً.