لكلّ عصرٍ مقبرته. لكلّ بلد، لكلّ حقبة تاريخية، لكلّ نهضة أو اندثار في تاريخ الأمم، مقبرة من نوعٍ خاص. حيّز مكاني يختلف تباعاً عبر الزمن. فضاء ما، مشترك، يتقاسم سمات مشتركة، أبرزها تجميع عدد معيّن من الأفراد لغاية مشتركة/ وجود هيئة إدارية تضع القوانين على هواها/ الاستناد إلى ايديولوجيّات محدّدة وبنى فكريّة وأخلاقية محدّدة/ والتأثير كذلك على البنية الفكرية للفرد– بما يؤثّر لاحقاً على البنية الفكرية الجماعية.
في القرن السابق، كانت المقابر واضحة، دون حاجة للترميز أو التشبيه: حروب عالمية وغزوات وجثث تتطاير هنا وهناك. كانت المقبرة جماعية، وملموسة. في القرن الأسبق، مع بزوغ الثورة الصناعية، كانت المقبرة المعمل. يتكدّس عدد من العمّال في حيّزٍ زمني واحد، ويبيعون قوّة عملهم مقابلَ أجرٍ يكفيهم لا لشيء– سوى تجديد قوّة عملهم بغية بَيعها في اليوم التالي. لا أحلام لهؤلاء، لا طموحات، حيوانات ميكانيكيّة. وقِسْ على ذلك. من دور الدعارة إلى دور العبادة وما بينهما؛ كلّ هذه المنشآت شكّلت يوماً ما مقبرة. (نظريّاً، نتكلّم عن ظاهرة تتقاطع مع «الهيتيروتوبيا» عند ميشال فوكو).
في لبنان، لا داعي للتمحيص، فهو بذاته مقبرة. ونحن بداخله جثث متحرّكة، لا أكثر. لكنّ دراسة الواقع بتفاصيله مفيدة. إن حصرنا بحثنا بالفئات الشابة، يُفترض بهؤلاء، في عالمٍ موازٍ، أن يكونوا في «ربيع» عمرهم، في قمّة الأحلام، مع طموحات لامتناهية، قدرات هائلة، إلخ... أمّا الآنَ هُنا، في لبناننا، فالمسألة مختلفة بنيويّاً.
في الجامعة اللبنانية، أخذت الإدارة قرارها بالتلاعب بصحّة الطلاب وعائلاتهم. الامتحانات حضورية. وإن كانت الاجراءات الوقائية مأخوذة بجدّية داخل الحرم الجامعي (وهي ليست كذلك)، فإنّها غائبة تماماً خارجه، بدءاً من المواصلات. حتّى أن الأزمة تنسحب على المستوى المادي والنفسي والتقني، وليست محصورة بالأزمة الصحّية.
طرح الطلّاب بدائل عدّة، لكن لا من مستجيب. حاولوا المقاطعة، نجحوا في المرّة الأولى وتلكّأوا في الثانية. إلّا أن عدداً كبيراً تغيّب عن امتحاناته، مخاطراً بعامه الدراسي أسوةً باستهتار الإدارة. ناهيك بتأخّر إنهاء العام الدراسي لأشهرٍ، في الجامعة اللبنانية حصراً. ما يعني أن فرصاً عديدة قد هُدِرَت، سواء في متابعة التخصّص في الخارج أو في جامعة أخرى، أو حتى في سوق العمل. طُحِنَت أحلام ما يُقارب الثمانين ألف طالب، هكذا، ببساطة، بسبب تعاقب إدارات مهملة وفاسدة.
الإدارة في الجامعة الأميركية ليست أفضل حالاً. فرغم البروباغندا التي تحظى بها، ورغم «بَيْعها» مواقف مؤيّدة للثورة هنا وهناك، قامت بتشريد مئات العائلات، هكذا أيضاً، ببساطة، بشخطة قلم. شرّدتهم لأنّ أحدهم لا يتنازل عن فلسٍ ممّا جناه عبر استغلال باقي الفئات، ولأنّ هذا الـ«أحدهم» بالتحديد ينوي تحميل الفئات الشعبية ثمن الانهيار. أصبح كلّ هؤلاء عاطلين عن العمل في غضون لحظة. حتّى حلمهم في الصمود خلال الانهيار اندَثر.
على نطاقٍ أوسع، تمضي الجامعات الخاصة بإجرامها عبر دَولَرة أقساطها. فمن كان من الطلّاب يدفع مثلاً 4.5 مليون ليرة مقابل قسطٍ بقيمة 3 آلاف دولار، بات عليه أن يدفع اليوم 24 مليون ليرة، وهذا مستحيل. بَح! أيضاً هكذا، ببساطة، بفرق العملة، طُحِنت من جديد باقة من الأحلام الشابة، سيّما أن الجامعة اللبنانية غير مجهّزة البتّة لاستقبالهم.
ما ذُكر هنا لا يتعدّى النقطة في بحر. بحر إجرام المؤسّسات التعليمية التي تبغى أو لا تبغى الربح، وإجرام الإدارات البرجوازية الخاضعة لسلطة رأس المال. آلاف الشباب والشابّات دفنوا أحلامهم في غضون أشهر. الآلاف منهم طُحِنت طموحاتهم بسبب جامعاتهم، وبسبب «النموذج». حُوِّلوا باكراً إلى جثث، وتحوّلت جامعاتهم بذلك، إلى مقبرة لأحلامهم.