كما بات واضحًا للجميع اليوم، لم يكن الانهيار المالي الذي حصل في تشرين الأول من العام الماضي سوى نتيجة قدر لا يحصى من التراكمات التي كانت تتّجه حكماً نحو الانفجار: من تراكم عجوزات ميزان المدفوعات وتضخّم خسائر مصرف لبنان التي أخفتها ميزانيّاته، إلى عمليّة السطو المنظّم على ودائع اللبنانيين في السنوات الأخيرة، والتي اتّخذت شكل الأرباح السخيّة التي وفّرتها الهندسات الماليّة التي إستُعملت لشراء الدولارات وتحويلها إلى الخارج. على مدى سنوات، كانت مؤشّرات الانهيار تتوالى على الظهور، فيما كان الإنكار سمة جميع الردود الرسميّة.
حين حصلت الثورة الشعبيّة، وظهرت على إثرها علامات الانهيار، كان يفترض بالسلطة الحاكمة أن تقوم بسلسلة من الخطوات البديهيّة التي تقوم بها الدول عادةً إثر هذا النوع من الصدمات: القوننة الفوريّة لكل إجراءات ضبط السيولة، لحماية ما تبقى من أموال ولضمان العدالة بين المودعين في استخدامها. ومن ثم الشروع بعدها في تحقيق شامل، وشفّاف أمام الرأي العام، لكشف مصدر الخسائر وتوزيع المسؤوليّات أولاً، ولتشخيص الوضع الراهن وتحديد ما تبقى من سيولة ثانياً. وأخيراً، صياغة خطّة معالجة لتوزيع هذه الخسائر، مع الأخذ في الاعتبار مسؤوليّة كل طرف في كل القرارات التي جرى اتخاذها، وضرورة حماية الفئات الأكثر هشاشة عند الدخول في هذا المسار.
لكن على النقيض من ذلك تماماً، ما إن دخلت البلاد في حقبة الانهيار حتّى بدأت السلطة بالتصرّف كعصابة لا تمثّل سوى امتداد لشبكة المصالح المتجذّرة في النظام المالي، لا بل يمكن القول أن ما جرى كان أشبه بتواطؤ منظّم ومدروس، للإطاحة بكل ما يمكن أن يمس بهذه المصالح.
كانت البداية من حصر كل الرهانات ببرنامج صندوق النقد الدولي، لكون الاقتراض والتمويل الخارجي يمثّل بشكل بديهي البديل الأسهل الذي يُغني العصابة عن الشروع في معالجات جذريّة يمكن أن تمس أسس النموذج الاقتصادي الذي جرى بناؤه طوال السنوات الماضية. لكن وبمجرّد الدخول في هذا المسار، انطلقت كل أشكال التحايل والتلاعب بهدف التملّص من الشروط والإصلاحات التي يفرضها الدخول في برامج صندوق النقد، وتحديداً تلك التي يمكن أن تمس بمصالح هذه المنظومة.
طار مشروع قانون الكابيتال كونترول عن طاولة مجلس الوزراء، بلعبة أخرجها وأنتجها بفخر رئيس المجلس النيابي، ففُتح الباب أمام استمرار كل أشكال تهريب السيولة المتبقية في النظام المالي إلى الخارج. ثم أُسقط مسار التدقيق الجنائي بعد الإطاحة بشركة كرول، في عمليّة تشاركها الثنائي الشيعي داخل مجلس الوزراء، ثم أكمل المهمّة وزير الماليّة المحسوب على الثنائي نفسه بتوقيع عقد لم يحاول تخطّي عقبات السريّة المصرفيّة. فأصبح التدقيق الجنائي تدقيقاً أولياً، لن ينتج سوى دراسة سطحيّة وشاملة لن تكشف مصدر الخسائر أو مآل التحويلات المشبوهة.
أمّا المؤامرة الكبرى، فكانت في المجلس النيابي، حين تصدّر النائب إبراهيم كنعان المشهد، مطلقاً في لجنة المال والموازنة مساراً أفضى إلى الإطاحة بكل مقاربات الخطة التي عملت عليها شركة لازارد، في محاولة لتقليص حجم الخسائر التي ستعترف بها خطة الحكومة، والتي ستتحمّلها رساميل النظام المصرفي. وعلى هامش كل هذه الأحداث، كانت السلطة تطيّر على التوالي كل الإصلاحات التي كان ينتظرها ويتحدّث عنها الصندوق: من إفشال التعيينات القضائيّة إلى دس معمل سلعاتا في خطة الكهرباء وصولاً إلى تعطيل تعيين الهيئات الناظمة وغيرها.
في كلّ هذه الأحداث، كانت البلاد أمام ثلاثة مشاهد. مشهد التغيّرات في المزاج الشعبي بعد ثورة 17 تشرين الأول، وما أفرزته من نقمة على أقطاب الحكم. ومشهد الانهيار وتداعياته على اللبنانيين. ومشهد السلطة التي ردّت على الثورة وعلى الانهيار بالتواطؤ لحماية مصالحها. بين كل هذه المشاهد، يمكن للعصابة أن تملأ الوقت ببعض المسرحيات: السجالات حول الصلاحيات والميثاقيّة والبروتوكولات، وبعض العراضات الصاخبة في الشارع. لكنّ الفرز والتناقض بين مصالح اللبنانيين ومصالح هذه العصابة بات واضحاً الآن أكثر من أي وقت مضى.