منذ اندلاع الانتفاضة قبل أكثر من سنة، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بعناوين تحتفل بـ«دور المرأة» في الانتفاضات:
- الاحتفال بموقع النساء في المواجهة مع الأجهزة الأمنية لحماية المتظاهرين، ما يؤكّد سلمية التظاهر.
- طغيان شعار الثورة أنثى للاحتفال بدورها المفترض.
- الكتابات الغزيرة والفائضة بأسلوب تقديسيّ وتبجيليّ عن دور المرأة المزعوم كما لو أنّنا كنّا نعيش عيد الأمّ خلال أغلب أيّام التظاهر.
منذ الليلة الأولى من الانتفاضة، جاءت المناداة بإسقاط النظام بموازاة الحركة النسوية.
فالتجربة النسوية علمتنا أن المشاكل البنيوية المتفشية في لبنان لا حلّ لها سوى من خلال إسقاط البنية نفسها وبناء أخرى بأنفسنا. الصراعات التي نخوضها كنساء ومواطنين ومقيمين هي قائمة على مأسسة التمييز واللامساواة عبر النظام الطائفي الذي يكمن جوهره في أبويّة وعنصريّة قاتلة، والذي يؤمّن استمراريته من خلال التلاعب الحذق بسياسات الهوية التي يبني عبرها هرميات تحدّد الأهمية والأولوية في الأخلاقيات والقوانين. هذه الهرميات يبنيها النظام على هويات وطنية وجندرية تحدّد مَن له حقوق ومَن عليه إثبات استحقاقه إياها في أعين أزلام النظام.
ثمّ شهدنا ثورة على المنظومة الأخلاقية التي ارتبطت باحترامية و«حضاريّة» ورقابة ذاتية كنا نمارسها مرغمين/ات، بالأخصّ كنساء يتوقّع منّا التحلّي بالصبر والحفاظ على «تهذيبنا» بهدف تقويضنا وإرغامنا على الرغبة بالتماشي مع دور أُعطي لنا دون إذننا.
ربّما كان من أجمل تجليات الانتفاضة ربطُ المجموعات النسوية والنسائية الشعارات المنادية بإسقاط الاحتكارات بشكلها السياسي أو العسكري بشعارات «الشعب يطالب ولا يفاوض» الذي نبع من سأم سنوات من التهميش والمساومة.
ثمّ تلتها أجمل أشكال الهدم، وهو هدم صورة وهيْبة الأب المتخمة بالذكورية من حيث استمداد قوته من استبداد وقمع الخاضعين لسلطة وعهد الآباء.
لكن اليوم، لا أريد تكرار القول أنّ إسقاط النظام الطائفي الأبوي لن يؤدي إلى تحرّر المرأة واللاجئات والعامل/ة والمواطن/ة فحسب، بل أيضًا إلى سقوط احتكار القوة وتحديد أدوار الهويات معه ومع طبيعة النظام الزبائنية. لا أريد الاحتفال بقوّتنا أو صمودنا ولا استغلال المناسبة للفت النظر لما نعيشه كنساء.
ظننت أنّ الأجدى، ربّما، أن نتكلّم عن البنية الكبرى التي تتيح المعاناة من الأساس. لكن وجدت نفسي مجدّداً أتململ من التكرار.
عرّفتني صديقتي على مفهوم «التفاوض مع الأبوية» (bargaining with the patriarchy) ومنذ ذلك الحين وأنا أتساءل كيف نتمكّن من الاستمرار بالعيش في هذا النظام بانتظار زواله أو استبداله.
مذهل كمّ التعايش المفروض علينا مع الأبوية.
لا أظنّ أنّنا نتحدّث كفايةً عن هذا بشكل طليق أو شامل. وبهذا أعني الطرق الكثيرة التي نلجأ إليها لنؤمّن حداً أدنى من القوّة أو الوجود الآمن في المجتمع، كما لو أنّنا على اتّفاق صامت وغير معلن مع الرجال وأركان النظام المتشعّبة. نُدفع لزوايا البنية الأبوية للتعايش معها، لا لمقاومتها. نبتز بتذكيرنا الدائم بأمننا النسبي في لبنان أو بالامتنان لعدم كون الأوضاع أسوأ أو لوجود عدد من النساء في مناصب عليا ضمن أماكن تساهم هي الأخرى في استمرار هذه البنية. يُسمح لنا بالتنكيت عن الرجال والذكورية بين الحين والآخر لسبب أعتقد أنّه يصبّ في إعادة إنتاج ثنائية الرجل والمرأة وإعادة إنتاج ثقافة التضادّ بينهما.
لا أمانع بالضرورة أساليب السخرية من كائن مخوّل التحكّم بي وبجسدي بينما جلّ ما يحقّ لي في الواقع هو استعمال اللغة لاستنكار قوّته هذه في محاولة لتقويضها. بالفعل أفكر أحياناً إن كان هذا فعلَ تنمّر إلّا أنّني أعود وأتذكّر، أو بالأحرى أجهد لأذكّر نفسي، أنّ هذا غير مهمّ. فالانزعاج من السخرية من قوّة لا حقّ لك بها قد توحي على الأغلب بأنّك متشبّث بها أو على الأقلّ بعدم استعدادك بعد للتخلّي عنها. لكن مجدّداً، هذا كلّه غير مهمّ لأنّ هذا اليوم ليس عنك.
كما أنّني أعرف أنّني والكثير لم نعد بمزاج المطالبة أو التفاوض على حقوق إنجابية أو جسدية أو غيرها يُعتقد أنّها تطفو في مكان ما لوحدها دون عدالة أشمل متعلّقة بسياق هذه الحقوق أو بمزاج نقد أجندة الأولويات الثورية.
نفرت من علم النفس الذي درسته ربما لسبب يكمن في قلقي المتزايد حينها من مواجهة احتمال «موضوعي» عن سبب كآبتي ونوعها المألوف الذي وجدته عند الكثير من النساء غيري.
قيل لنا أنّنا أكثر عرضة من الرجال لأمراض أو اضطرابات معينة تاريخياً مثل الهستيريا. كنّا نفرح أو نرتاح بعض الشيء عندما تقوم إحداهنّ في الصفّ بالإشارة إلى درجة الميزوجينية في تعريف أو افتراض كهذا. لكن لم يفسّر أو يحلّ شيء بعد شعورنا المشترك بالكآبة وتجاربنا المتشابهة بالاغتراب النفسي. بالطبع، تفسير هذا بالأدوار الجندرية والتوقّعات المفروضة علينا والضغط الذي تولّده كان دائماً من المسلّمات.
لكن ماذا لو قمنا بتأكيد هذه الفرضية وبالفعل قلنا إنّنا هستيريات أو مجنونات في محاولة لاسترداد الكلمة ومحو تاريخها الذكوري، كما نفعل باسترداد الشوارع والمجالات الأخرى؟ كيف نواجه هذا النوع من الكآبة ولا نكتفي فقط بالتكيّف معها؟ وكيف نعرف إذا ما كانت أسئلتنا هذه عن صحّتنا العقلية أو النفسية مشروعة في هذا السياق أم أنّها مجرّد وجه من الأبوية قد تشرّبناه ودفعنا إلى لعب دورنا الأبويّ عبر إيهام أنفسنا بأننا لسنا بخير؟
لعلّ أكثر أشكال الابتزاز هو الاستنزاف والإرهاق النفسي، بحيث نُمضي الكثير من الوقت في محاولات للنهوض مجدّداً بعد كلّ هزيمة. وقد يكون الابتزاز الأبوي الأكبر هو هذا الحثّ الذي يدفعنا باستمرار لخلق بدائل محصورة ضمن بنية أبوية، وللبحث دائماً عن ثغرات نستخدمها مؤقّتاً، فنضيّع الوقت مرغمات بانتظار هبوط البنية الأكبر التي لا تنفكّ تقاومنا هي الأخرى.
في يوم النساء، هذه السنة الموبوءة (حرفياً)، تبّاً للقدسية والاحتفالية وتبّاً للبدائل التي لا نختارها نحن.