يمكن للقبول الراضي بالوضع الراهن أن يتعايش مع التمرّد المشهديّ الخالص- إذ يغدو الاستياء نفسه سلعة بمجرّد أن يتمكّن اقتصاد الوفرة من تحويل تلك المادّة الخام.
غِيّ دوبور، مجتمعُ المشهَد.
تشكّل المظاهرات نوعاً من الضجيج الكرنفاليّ في خلفية الواقعية الرأسمالية.
مارك فيشر
لطالما استحوذت الليبرالية الجديدة على الخطاب اليساري في الحراكات الاحتجاجية، لتفرض هيمنتها على الممارسات المعارضة التي تحاول أن تعبّر عن المجتمع بأساليب مغايرة، فتفرّغ الدلالات السياسية من معانيها وتقتطعها من سياقاتها التاريخية، لتحشُوَها بما يتماهى مع منظومتها القِيَميّة: قِيَم السوق. وبذلك تعيدُ إنتاج الخطاب اليساري كخطاب مطهّر من الشوائب الجذرية، أي من الرؤية العلميّة للصراع الطبقيّ وسبل خوضه.
لا تشكّل الحالة اللبنانيّة استثناء في هذا السياق. فقد ترافق تراجع انتفاضة 17 تشرين نتيجة جملة من الظروف والعوامل والأسباب التي فُنِّدَت مرارًا وتكرارًا، مع هيمنة خطاب ما اصطُلِح على تسميتِه بـ«المجتمع المدني» على فضاء الانتفاضة.
يرتكز هذا «الخطاب المدني» على العموميات البرّاقة في صياغة مائعة للمفاهيم والقيم المقبولة عاطفيًا دون الحاجة للتمعّن والتحليل السببي، كالسعي نحو الحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد، وهي مصطلحات لن يعارضها أو يرفض تبنّيها حتى الرموز السياسية للأوليغارشية. كذلك يركن «الخطاب المدني» إلى الدلالات الفارغة التي تحتمل تصوّرات مختلفة حدّ التباين وتُمعِن في الغموض والإبهام، مثل تعبير «العدالة» الذي طغى على «إعادة توزيع الثروات»،. فبالرغم من ترادف اللفظَيْن، فإنّ الأوّل لا يستدعي تصوّرًا عامًا ومحدّدًا في الخيال الجمعي، فيما يحتوي الثاني على جوابه فيه، ويشير بوضوح إلى سبيل تحقيق تلك العدالة المرتجاة. وعلى هذا المنوال نفسه، يمكن سوق أمثلة عديدة تستحقّ العرض والتأمّل في الشعارات والطروحات والسرديات المبنية حول الأزمة، والتي تؤكّد هيمنة الخطاب المدني على المجال العام على حساب المسألة الطبقية. ففي عزّ استبداد حزب المصارف والتجار المحتكرين، وفيما كان الناس يفقدون مصادر عيشهم وتتصاعد الاشتباكات الدموية مع أجهزة الدولة القمعية، هوى «المدنيون» بعصا السلميّة على الجموع الغاضبة، مدّعين صفة الوكالة عن الانتفاضة لحماية الشكلية المشهدية، فأمروا بإيتيكيت الثورة ونهوا عن العنف الثوري.
لكنّ الانهماك بالشكل ليس إلا انعكاسًا لخواء المعنى. فلا غاية تُرتجى من الاعتراض المشهديّ غير المشهد بذاته، إذ بات معيار نجاح أي نشاط أو تحرّك، مهما بدا مشتبكًا ومباشرًا، هو التغطية الإعلامية، ليصبح «الرأي العام» مجال المواجهة وتصبح الشاشة حيّز التجربة. تلك الشاشة التي تحتلّها شخصيات مؤثّرة ومحظيّة برأسمال ثقافيّ واجتماعيّ، أو حتى ماليّ وسياسيّ، غالبًا ما تتبنى أيديولوجيّةً مسطّحةً، وتميل لخوض «المعارك الجيّدة»، مكرّسةً اغتراب الجماهير عن جوهر صراعها الطبقي. فتقبع في موقع الشاهدة على الحدث، غير الفاعلة فيه، بدلاً من أن تصنع المشهد بنفسها. فهل نؤثّر فعلاً على جوهر النظام وبنيته، ونعيق عملية إعادة إنتاجه لنفسه، بهذه الشكليات/ الكليشيهات الاعتراضية؟ الجواب القاطع بالنفي نستقيه من دروس العقد الأخير.
لقد خَفّ زخم الانتفاضة التشرينية منذ شهور، وإلى حين اندلاع الهبّة الشعبية المقبلة، علينا مراجعة التجربة ونقدها في ظلّ الوتيرة التسارعية للانهيار الشامل. كما يجدر بنا تطوير أدوات عملنا السياسي، وكسر الأنماط التقليدية كـ«نشاطيّة الإيغو» المسلَّعة التي تحول دون تشكّل الوعي الطبقي الضروري لتخطي استلابنا عن عملنا ومجتمعنا وذواتنا. يشترط ذلك تحرّرنا أولاً من وهج المشهد واستعادة الخطاب الجذري وإحياء النقاشات السياسية غير المقَوْلبة في أماكن العمل والعلم والسكن، فليس بالساحات والشاشات وحدها تنتصر الثورات. أمّا من يريد التلويح بانتقادات لاذعة للنظام الرأسمالي في لبنان والاكتفاء بالتنديد اللفظي بجرائمه، فالأحرى به الانضمام إلى منظمة غير حكوميّة.