حين تنقل وكالة رويتز عن مصادر مطّلعة أنّ المدير العام لجهاز المخابرات الخارجيّة الفرنسيّة، برنار إيمييه، قد انضمّ إلى قائمة الذين «يساعدون» رئيس الحكومة المكلّف على تأليف حكومته، فهذا يعني أنّ الانغماس الفرنسي في تفاصيل السياسة اللبنانيّة بات أبعد بكثير من النصائح الحازمة التي وجّهها ماكرون للزعماء اللبنانيّين خلال الزيارتَيْن الأخيرتَيْن.
في الواقع، كان مسار اختيار رئيس الحكومة المكلّف كافياً وحده للدلالة على هذا الدور المستجدّ، خصوصاً حين نلتفت إلى أنّ أبرز ما ساهم في تسمية الرجل كان معرفة الفرنسيّين به وحماستهم له، نظراً لكونه يلقى معاملة «أهل البيت» من قبلهم، حيث أنّ والد زوجته الفرنسيّة هو أحد المقرّبين جدّاً من قصر الإليزيه والحزب الحاكم في فرنسا.
في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، بدا مكرون مطّلعاً على تفاصيل الملفات الإشكاليّة، وطرح معالجات واضحة: من قطاع الكهرباء إلى المصارف وإعادة إعمار المرفأ وإدارة النفايات والموارد المائيّة وغيرها. أمّا الأهمّ، فهو حرص الرجل على اصطحاب «عدّة الشغل» اللازمة لتمسك فرنسا بمسار هذه الملفّات وثمارها: مجموعة من رجال الأعمال الذين اصطحبهم في رحلته، والذين حرصوا على القيام بما يكفي من جولات لاستطلاع الفرص المتاحة لبدء مرحلة «الإصلاحات الماكرونيّة»، بعد سقوط الرهان على إصلاحات فريق المتحمّسين لصندوق النقد الدولي الذين جاؤوا في مركب حسان دياب.
فقد جاء حسان دياب على رأس فريق استشاريّ يفهم صندوق النقد جيّداً ويعرف أولويّاته، ويراهن على برنامج قرضه لتحقيق غايتَيْن: فرض «الإصلاحات» المطلوبة كما يراها الصندوق وفريق الاستشاريّين، وتوفير الدعم المالي المطلوب لإنعاش المنظومة الاقتصاديّة. سقط الرهان بأسره، بعدما تبيّن أنّ الإصلاح من فوق عبر هذا النوع من الحكومات غير قادر على تحقيق أيّ خطوة في مقابل شبكة المصالح الداخليّة الراسخة، والمتشابكة بين النظامين السياسي والاقتصادي.
مع ماكرون، باتت المسألة مختلفة تماماً. فنحن نتحدّث هنا عن دولة تعرف كيف تساوم مع حزب الله، الحركة الأقوى ضمن النظام السياسي اللبناني، كما فعل ماكرون مه محمد رعد حين قال له: لن نزعجكم في مسألة السلاح، وفي نقطتين أو ثلاث تهمكم، لكن في المقابل ضعوا أوكسيجين في النظام. بمعنى آخر، دعوا برنامجنا للبلاد يدخل حيّز التنفيذ، ولنترك سلاحكم ونفوذكم خارج البحث اليوم.
نحن نتحدّث كذلك عن دولة تملك رهطاً من الشركات المتأهّبة لاقتناص الفرص في مرحلة جمع أصول الدولة في الصندوق السيادي، تمهيداً لاستثمارها على طريقة «الشراكة مع القطاع الخاص» التي مهّد لها وبشّر بها مؤتمر سيدر. أمّا الأهمّ، فهو معرفة هذه الشركات كيف تؤكل الكتف في لبنان، وكيف تُعقَد الصفقات وتُبنى شبكات المصالح مع المنظومة الحاكمة.
لهذا السبب، عرفت شركة CMA الفرنسيّة في الماضي أهميّة الشراكة مع نجيب ميقاتي في محطة حاويات مرفأ طرابلس لنيل التلزيم، تماماً كما تستعدّ اليوم بحماسة لنيل عقد إعادة إعمار وتشغيل مرفأ بيروت، بعدما جاء رئيس مجلس إدارتها برفقة ماكرون متأبّطاً خطةً متكاملةً لإدارة المرفأ أعدّها بالشراكة مع استشاريّين يمثّلون شركات فرنسية أخرى تعمل في مجالات الأمن والإدارة والصناعات البحريّة وغيرها. مع العلم أنّ شريك CMA اللبناني نفسه، أي ميقاتي، كان أبرز المتحمّسين للدور الفرنسي المستجدّ، لا بل ساهم في تسويق اسم مصطفى أديب، مستشاره السابق، لدى الفرنسيّين قبل تكليفه بتشكيل الحكومة.
ببساطة، نحن اليوم أمام دولة تملك مصالحها الاقتصاديّة المباشرة في الملف الاقتصادي اللبناني، وتملك في هذا الملف أولويّاتها وبرنامجها الخاص. بالإضافة إلى كلّ ذلك، تملك فرنسا ما يكفي من أدوات لفرض بنود رؤيتها ومتابعة تنفيذها. ولعلّ تكليف أحد مسؤولي المخابرات الفرنسيّة متابعة الملف اللبناني هو مجرّد دليل واحد على ذلك. لكنّ الأهمّ هنا، هو أنّ البرنامج الفرنسي لن يذهب باتجاه الانقلاب على التركيبة السياسيّة القائمة كما يحلم البعض، بل يبدو أنّه يتجه لعقد التسويات والصفقات معها، وفق قاعدة مدّ النظام بالأوكسيجين للبقاء قيد الحياة، كما قال ماكرون لرعد، ووفق قاعدة البحث عن المصالح المشتركة مع هذه التركيبة. هنا تكمن خطورة ماكرون.