حصار وقصف
بغداد 2003
في آذار 2003، وبعد حصار دام أكثر من عشر سنوات، بدأ غزو العراق، بحثًا عن «أسلحة الدمار الشامل» الذي كان من المفترض أن يمتلكها من كان يمثّل «الشرّ المطلق» آنذاك، الطاغية صدام حسين. حصار قضى بحياة أكثر من مليون عراقي، لحقته حملة قصف جوي ومن ثم غزو، أوديا بحياة مئات الآلاف. لم يكن هناك أسلحة دمار شامل، ولم تنتشر الديموقراطية بعد إعدام صدّام حسين، وانتهت الحرب بتدمير العراق.
حلب 2015
لم تبدأ استراتيجيات الدمار الشامل مع بغداد، بل قبلها بسنتين، في كابول، حيث قضى سلاح الجو على من كان يمثّل «الشرّ المطلق» في حينها، أي تنظيم «القاعدة» وحليفه «الطالبان»، بعد مقتل مئات الآلاف أيضًا. انتهت الحرب في أفغانستان وعاد الطالبان إلى السلطة.
لم تنتهِ استراتيجيات الحصار والقصف مع بغداد. بعد أقلّ من عقد من الزمن، مدينة عربية أخرى تحاصر وتقصف من سلاح جو، «ممانع» هذه المرة، لتقضي على «جراثيم» الثورة السورية. عشرات آلاف القتلى ودمار حلب الكلّي، ومعها القضاء على ثورة شعبية.
صنعاء 2015
قبل انتهاء معركة حلب، حصار آخر وقصف جوي آخر، هذه المرّة بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة في اليمن لمنع تقدّم الحوثيين. قصف وحصار وأزمة إنسانية قضت على مئات الآلاف، من بينهم حوالي ثمانين ألف طفل. انتهت الحرب وما زال اليمن مقسوماً.
غزّة 2023
بعد حصار دام أكثر من 15 سنة، بدأ التدمير الممنهج لقطاع غزّة من سلاح جو دولة الاحتلال. أكثر من 9,000 قتيل، غالبيتهم أطفال، والهدف محاربة «الشرّ المطلق» مجدّدًا أو «النازيين»، كما يحاول تصويرهم التضليل الإسرائيلي. لم تنتهِ الحرب بعد، لكنّ نتيجتها الأكيدة، قتل ودمار وتهجير.
هناك بقعةٌ من الأرض باتت تعيش تحت الحصار والقصف الجوي. هي تُحكَم مِن خارجها ومِن فوقها، مِن جيوش دول تحاصرها وتقصفها. بين الحين والآخر، يحصل غزو لكنّه لا يدوم. لا أحد يريد إدارة هذه المناطق. حصر شعوبها أو قتلهم أو طردهم، هذه هي الخيارات المتاحة.
فمن علوّ 30 ألف متر، لا حياة على أرض «الشرّ المطلق»، مجرد أنفاق ومغارات و«إرهابيّين» يختبئون في مخيمات لاجئين.
«لن يتكرّر ثانيةً»
انتهى القرن العشرون في عام 1990، أي عشر سنوات قبل انتهائه القانوني، تحت شعار «لن يتكرّر ثانيةً». لن تتكرّر «المحرقة» أو «الحروب العالمية» أو «المجازر» أو «الحرب الباردة»، أي مآسي هذا القرن القصير. افتتح القرن بانهيار الاتحاد السوفياتي، وللمفارقة، باتفاقيات «أوسلو» التي كانت تزعم إنهاء صراع أسّس للقرن العشرين.
شُيًّد عصر «اللاسياسة» وخلافاتها وبدأت مرحلة «التقنية» وحلولها.
ثلاثة عقود على انتهاء القرن العشرين، عادت عباراته وكأنّ الزمن لم يمرّ، بل غيّر مكانه فقط. عاد الكلام عن «المحرقة» التي تواجه إسرائيل، عن «النازيين»، في غزّة هذه المرّة، عن «الشرّ المطلق» في وجه «الخير»، عن هذه المعركة الأخيرة التي بعدها «الخلاص» الأكيد، معركة تتطلب التضحية بشعب بأكمله، كي لن تتكرّر ثانيةً الحاجة بتضحية شعب بأكمله.
من علوّ الطائرات الحربية، هناك لغة تحكم، لغة الدولة، لغة تدّعي أنّها تفرّق بين مدنيين وعسكريين وهي تقتلهم، لغة تبحث عن ممرّات إنسانية وهي تفرض الحصار، لغة تزن بين هدفي الدقّة والدمار، قبل أن تختار الأخير، لغة تدّعي أنّها لن تكرّر حروب الماضي، في لحظة وراثتها لمذابح القرن الفائت، لغة تفضّل حق الدول الدفاع عن نفسها على حق الشعوب بألّا تُقتَل. ليس من كلام سياسي في هذه الإبادة، مجرّد شيطنة لشعب ونقاشات حول تقنيّات القتل. وهذا المزج، بين الهمجية والتقنية، ألم يكن وصفة «المحرقة»؟
بين الحين والآخر، ينزل الغزاة إلى الأرض، لتبدو حقيقتهم. «أبو غريب» لم يكن استثناء، خطأ حصل يحتاج إلى تحقيق داخلي لضبط مفاعيله. كان نافذة عن حقيقة هذه الجيوش، مهما تلطّت وراء لغتها الأخلاقية والتقنية. وها هو يتكرّر اليوم، ليس فقط في سجون بعيدة عن نظر العالم، بل على شبكات التواصل الاجتماعي لكي يصرخ العالم، «هذا نحن»، «هذه هي حقيقتنا». في هذه البقعة من الأرض، المحاصرة، حقيقة عالم همجي، لن يرتاح إلّا بتدميرها كليًا، ربّما ليخفيها مجدّداً.
تقنيّات التطبيع
حول هذه البقعة المحاصرة، اتفاقيات تطبيع وسلام بالمفرّق بين دول عربية وإسرائيل، تجسّد تفوّق منطق «التقنية» على السياسة.
رغم الكلام الفارغ حول الحقوق الفلسطينية، خرجت هذه الاتفاقيات عن أدبيات الحل السابقة، والتي قامت على مبدأ «السلام مقابل الأرض». لا تنحدر هذه الاتفاقيات من تراث أوسلو وحلّ الدولتين، أو حتى من مبادرة الملك عبدالله، عام 2002، ومقايضتها للسلام العربي بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها بعد الـ1967. إنّها اتفاقيات سلام «تقني»، تريد التخلّص من أي مضمون سياسي للسلام مقابل تعاونات أمنية واقتصادية. بدأ هذا المسار، والمسألة الفلسطينية خافتة، ما سمح بتطوره السريع. لكن اليوم، يواجه المطبّعون معضلة، وهي انكشاف حقيقة أنّ هذا المسار بات يتطلب «التخلّص» من «مسألة غزّة»، وبأي طريقة. فدخول جنّة السلام التقني يتطلب الانتهاء من هذا الصوت المزعج القادم من هذه البقعة من الأرض.
في وجه الإبادة وما قد يكون نكبة «ثانية»، وفي وجه عالم متخاذل بأحسن الأحوال، وفي وجه منظومة عربية باتت تتوسّطها مسارات تطبيع، لا يبدو أنّ هناك أي موقف سياسي أبعد من المطالبة بوقف إطلاق للنار، غير مرتبط بأي مسار سياسي تفاوضي، أو كما طالب الرئيس الأميركي «وقف مؤقت» للقصف، مع ممرات إنسانية، تدخل أكفان ويخرج أقل من مئة جريح من حاملي جوازات السفر.
ربّما ليس هناك أكثر من ذلك يمكن المطالبة به في زمن «التقنية»، أو لمن يسكن في هذه البقعة من الأرض المحاصرة.