من الصعب أن يمرّ المرء على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى منزل فيروز من دون أن يشعر بسطوة الكيتش تخنقه.
أراد الرئيس الفرنسي الذي منحنا جدوده وطناً قبل مئة عام، أن يقبض على «جوهر» هذا الوطن في زمن انهياره الشامل. مثلَ تاجرٍ مُفلس يبحث في دفاتره القديمة، بحث ماكرون عن لبنانٍ ما سنة 2020، فلم يجد سوى الفكرة- الجوهر. لبنان ذاك، لم يعد له أي وجود حسّي. هو يرتع فقط في نظامٍ رمزي صُمّم في السنوات التي تلت إعلان لبنان الكبير ثم استقلاله، ورعته «المؤسسة» الرحبانية وعملت على تجذيره، ولم يبقَ منه اليوم إلا تلك السيدة التي- ربما لسوء حظها- أصبحت المتجسّد الأخير لذلك الجوهر، المتجسّد الباقي قيدَ الحياة.
لعلّ خطوةً مثل خطوة ماكرون كانت لتحمل معنىً ما في زمن الحرب الأهلية. حينها، كانت فيروز لا تزال تقف على المسارح البيروتية مقاومةً مآل «الوطن الحلم» الذي تحوّل إلى خنادق ومتاريس. وقد سمع كلٌّ منّا العديد من الحكايات، وبعضها أساطير، عن كيف كان المتقاتلون يجتمعون فقط على «حبّ فيروز»، وكيف كانوا يدعونها تمرّ على حواجز الشرقية والغربية على حدّ سواء «لأنّها فيروز». حينها، كانت البراءة تحتضر، لكنّها لم تكن قد فُقدت بعد. حينها، كان الأمل لا يزال بنهاية الاقتتال الذي يشكّل العائق الوحيد أمام إقامة الوطن المرتجى. حينها، كان الأمان هو كلّ ما ينقصنا كي نهنأ بأغنيات فيروز وبحكايات الأخوين رحباني. لكنّ الزيارة اليوم- في زمن ما بعد الأبوكاليبس حيث نحيا بشكلٍ يتخطّى ترف المجاز- ليست إلا حركة كيتشيّة.
راجت كلمة «كيتش»، كما نعرفها اليوم، بعدما استخدمها الروائي التشيكي ميلان كونديرا في رواية «خفّة الكائن التي لا تحتمل». وهي مشتقّة من فعل verkitschen في اللغة الألمانية، ومعناه «رخّص الشيء». ويُطلَق وصف «كيتش» بشكل عام على الأعمال الفنية المتخمة بالكليشيهات وتلك التي تمثّل ما هو مبتذل ومتوقّع وما يضمن تحريك المشاعر بسرعة ومن دون تكبّد مشقّة التفكير.
لعلّ العديد من اللبنانيين وغيرهم تأثّروا بـالصور الثلاث التي أظهرت ماكرون بجانب فيروز في منزلها. ذرف هؤلاء دمعة على «الحلم المغدور»- لبنان الكبير الذي رحل. لكنّ الأكيد أنّ العديد من اللبنانيين ودّعوا البراءة نهائياً منذ زمن بعيد، ولم تعُد مشهدية كالتي نراها اليوم تثير في نفوسهم سوى الرغبة في التقيّؤ.
لن تجدي نفعاً إعادة تدوير الكليشيه لإحياء تلك البراءة. لقد كبرنا واستهلكنا الحلم، ولم نعد نقوى على ذرف دمعة أمام صور توحي ببقاء مجدٍ ما في إحدى زوايا بلادٍ منهارة. فزيارة ماكرون لفيروز بعد شهر من انفجار شبه نووي دمّر العاصمة وقتل المئات، وبعد انهيار اقتصادي أدّى إلى إفقار اللبنانيّين بشكل غير مسبوق، وفي ظلّ استمرار تحاصُص أحزاب السلطة التي قتلت وخرّبت، تشبه إلباس جثّة متعفّنة ملابس بابا نويل.
عشنا أعماراً طويلة في هذا البلد بين براثن الكليشيهات. لكنّ الكليشيه لم يكن فاقعاً ولا مستفزّاً بقدر ما هو عليه اليوم. كأنّه لا يكفينا أنّنا في زمن الموت- السريع والبطيء- فكان على أحدٍ ما أن يختار طلاء هذا الموت بمشاعر رخيصة وقشعريرةٍ زائفة. أهلاً بكم في لبنان ما بعد المئة.