رقصٌ على خطّ التّماس
في تلك البقعة الواقعة على خطّ التماس الشهير بين الشياح وعين الرمانة إبان مرحلة الثّمانينات، لا شيء كان قادراً على العبور سوى القذائف والرصاص.
كان الموت وسيلة التّخاطب الوحيدة، ولكن في غياب الملجأ الشّياحيّ كان ثمة ما يستطيع العبور، وكان أثمن ما يحرص الناس على سحبه من البيوت المعرضة للقصف. هذا الشيء الصغير ليس سوى شريط كاسيت يحمل الأغنية التي اشتهرت كثيراً في تلك المرحلة، والتي كان صاحبها يتجرّأ على السخرية من كل شيء وهي أغنية «آه على هالإيام» لسامي كلارك.
حيث لا حوار قائماً وممكناً إلّا بالقتل، كان سامي «يتجَولق» على الحرب على طريقة الأطفال العابثين. كان هو المسيحي، في الفترة التي كان يُعتبر فيها كلّ مسيحي عدوّاً، صديقنا الشّخصي وغير القابل للسّقوط في فخ التوصيفات والتحديدات. كان معفى من الطائفية والحرب وقادراً على تركها تعبث في مكان لا نعرفه، وتجري في ساحات غريبة.
في الملجأ حين يزورنا، كانت تنتهي الحرب ولا يبقى منها سوى جثّة ملقية في غياهب النسيان، كنا نمدّ ألسنتنا لها ساخرين، ونستعد للقاء الصبايا واستقبال وعود الحياة.
صوتٌ لا تذهب إليه بل تلتقي به
للطّرب العربي طقوس تشبه في طبيعتها الحج. تستعد للقاء الصوت وتتفرّغ له وتذهب إليه، وفي هذا توكيد على نوع خاص من السلطات وتناغم معها. أمام الطرب لا تستطيع تجاوز موقعك كمستمع ومتلقٍّ لِما يجود به عليك المطرب.
سامي كلارك أسّس لنوع جديد ومختلف في التّعامل مع الغناء يمكن أن نسميه اللّقاء. تقوم معادلة اللّقاء على أنّ الغناء موجود وحاضر طوال الوقت. لا تذهب إليه كالداخل إلى معبد بل كالذاهب للقاء صديق شخصيّ وحميم، ويمكنك معه التخلي عن كلّ الرسميّات، وأن تكون على سجيتك تماماً. لا بل أكثر من ذلك يمكنك على الدّوام أن تقيم معه حواراً خاصّاً وشخصيّا.
وبذلك يمكن القول إنّ نقاش الأنواع الغنائيّة لم يعد حاملاً لثقلٍ وازن أو مرتبطاً بطقوس ومحاصراً بخريطة مشاعر مسبقة ومحدّدة سلفاً. غنّى سامي كلّ الأنواع، وحملَ أرشيفُه الوطنيات والأناشيد والأغاني العاطفيّة وغيرها. ولكن خصوصيّته كانت تستطيع دفع كلّ هذه الأنواع إلى إقامة جبرية في حيّز الخفة والمرح بغض النظر عن شدّة الموضوع، وهو الذي قال في مقابلةٍ أجرتها معه الإعلامية نجوى ابراهيم عام 1984 أخاف من كل ما هو شديد.
سمح ذلك الخوف من الشّدة بتقريب الغناء وأنواعه من فكرة اللّقاء حيث لا تصطدم بالنّشيد ولا تقع في هوّة العاطفة، بل تستجيب وتلتقي وتتعارف وتكون خفيفاً وسعيداً.
العربية بتسع لغات
غنى سامي كلارك بتسع لغات أجنبيّة. ضمّ أرشيفه الضخم الذي يتجاوز الـ700 أغنية مجموعة أغنيات بالإيطالية والفرنسية والإنجليزية وغيرها. ولكن ما أن يتعرّف المرء على صوته حتى يسقط حاجز اللّغة ويتبدّد، ويصبح الغناء فجأة بالعربيّة ويبدو الكلام عربيّاً أو محليّاً ولبنانياً.
اللغة الأجنبيّة في هذا المقام مجرّد صيغة الخروج إلى العالم واختراقه في حين يبقى الصوت مشدوداً إلى العربيّة وملتحقاً بها وقادراً على استحضار مناخاتها. هكذا يصبح كل من يعاقر غناء سامي باللغات الأجنبية مدعوّاً إلى وليمة كونيّة انطلاقاً من مكانه، وحتى من دون حاجة لمعرفة أيّ من تلك اللغات.
شكّلت تلك القدرة على توسيع المكان اللبناني ما يفيض عن السياسة وعن حدود البلد التي كانت الحروب قد ضيّقتها وشرّحتها. النساء اللواتي يحضرن في أغانيه بأسماء غربيّة كنّ أقرب إلى الألفة من عمليات التفاصح المتعالية التي كان غيره يصطنعها. كنّا نعرف صباياه ونتعرف على ملامحهن في صديقاتنا وأمّهاتنا ونجماتنا. كان يمنحنا العالم ولغاته بكرم فائض بمجرد ملامسة صوته الّذي كان يحيل كلّ ما ومن يمسّه إلى صيغة محليّة ومحلاة من عالم كنّا نفقد صلتنا به.
صورة آبائنا المشتهاة
في الألبومات الناجية التي تحتفظ بها كلّ عائلة، تحتل صور ما قبل الحرب صدارة الذكريات الأثيرة، لأنها تفصح عن انتشار أناقة عامة كان فيها كلّ شخص نجماً أو يستعد لأن يكون نجماً.
لم تفصح تلك الأناقة العامة، والتي كانت جزءاً من سيرورة الحياة اليوميّة ومعلماً من معالمها عن تماهٍ بنجوم ذلك الزمن بل كان النجوم يستعيدونها. صناعةُ النجم كانت تتم من خلال القرب والشّبه وليس من البعد والتّعالي.
نجح سامي في المحافظة على تلك الصورة طوال حياته، وكانت كل إطلالاته تستعيد تلك الأناقة اللّطيفة والحيّة، وتقدّم لنا وللمشاهدين وثيقة بصريّة على ما كانت عليه البلاد قبل الحرب. كان صورة آبائنا المشتهاة، والّتي حتى لو لم يتيسّر لنا معاينتها والعيش معها، فإننا كنّا نتبناها ونشتاقها.
ذلك الجهد، إذا ما أضفنا إليه تأسيسه جمعية «لبنان الجديد» المناهضة للحرب والتي استطاعت أن تضم الآلاف، يمكن النّظر إليه الآن بوصفه جهداً تأسيسيّاً ونوعاً من الاستشراف المبكر لضرورة نفي الحرب من المجال العام، وبشكل خاص في المجالين الخطابي والبصري.
دعوة للطيران والانفتاح على الكون
الشعبيّة الجارفة والمتجدّدة لشارات المسلسلات والكرتون التي غنّاها سامي بصوته وأبرزها شارة غرندايزر الّتي أعاد توزيعها وغنائها منذ سنوات قليلة تجبرنا على الخوض في محاولات التفسير والقراءة.
ما الذي يعيدنا باستمرار، وبشكل يكاد يكون قهريّاً إلى تلك الشّارة وإلى ذلك المسلسل وزمنه؟كمحاولة للقراءة يمكن أن نقول إنّ بطل الكارتون الشهير دوق فليد غريب قادم من كوكب آخر، وقد اختار الدفاع عن الأرض، وهو على غرار شخصية سوبرمان غريب ولاجئ كوني. في تلك الفكرة أبعاد كثيرة يجدر باللّبنانيين معاينتها على ضوء ما جرى منذ تلك الفترة وما يجري الآن.
يعلن بوضوح خطاب المسلسل وأفكاره، والتي حوّلها غناء سامي إلى حالة أيقونيّة، ألّا مجال للنّجاة إلا بالتّعاون والانفتاح على العالم، وأنّ الوقوع في فخ التعريفات الضيّقة ليس خطراً عابراً، بل يهدّد بالإبادة والتّلاشي.
تلك الدعوة للطيران والتحليق والدفاع عن القيَم لم تكن سوى فكرة عن الحب، حب المكان والدفاع عن زمانه. ولعل هذا هو سر الحضور الدّائم لسامي والذي لا يقطعه رحيل عابر.
نعرف أن هناك معلّم طيران جاهز لتعليمنا التّحليق في كلّ أوان، وأنّنا بعد أن ذقنا نشوة هذه التجربة، لا يمكننا إلا العودة الدّائمة إليها بوصفها سيرةً مشتهاةً ومصيراً يُصنع بالأيدي، ولأننا على يقين أنّنا سنعثر في النّهاية على كنز أيامنا المسروقة ونستعيده من لصوص الزّمان.