النوستالجيا للمستقبل
منذ عدة سنوات، بات جزء متزايد من اللبنانيين ينشدّ أكثر فأكثر الى الماضي، في حال من النوستالجيا «المَرضية».
لم تكن هذه الحال عشية انتهاء الحرب الاهلية في لبنان. فرغم مآسي الحرب وويلاتها على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً، استطاع اتفاق الطائف وتركيبته السياسية إعطاء جرعة كبيرة من الأمل بالمستقبل، ما غذّى عند أجيال الحرب، فكرة تقول إنّ حقبة السلام الموعود فرصتهم بالتعويض عن الوقت الضائع.
بالطبع، اجتمعت عناصر كثيرة سهّلت على اللبنانيين وضع تاريخهم وحربهم وذاكرتهم وراء ظهورهم، في حال من النكران الجماعي، الإراديّ منه أحيانًا واللا-إرادي أحياناً اخرى. من انهيار المنظومة الاشتراكية وصعود وعود الازدهار لليبرالية الاقتصادية، الى السلام الموعود في الشرق الأوسط، الى عصر الاتصال والتكنولوجيات الحديثة، الى ثقافة العولمة، الى فوائد الازدهار المالي في الخليج وافريقيا. حتى عندما كانت التيارات السيادية تناضل للتخلص من الوصاية السورية، كانت تفعل ذلك مشدودة أكثر نحو المستقبل.
لعلّ أكثر من التقط ابعاد هذه اللحظة الكثيفة بالمشاعر المتناقضة بين الماضي والمستقبل هو رفيق الحريري الذي ركز على مصطلح سيصبح لاحقاً عنواناً لحركته السياسية: المستقبل! فرُكنت المصالحة والمسار السياسي جانباً، وأطلق العنان لعملية إعادة الإعمار بهدف «الالتحاق» الاقتصادي بديناميكيات فرضتها العولمة.
ربّما شكّلت هذه الفترة الوجيزة استثناءً، حيث اختلط الحنين لما قبل الحرب مع شوق للمستقبل، ونوعًا من القطع والوصل بين بداية الحرب وما قبلها. فالعودة الى الماضي كانت للذهاب أكثر الى المستقبل في عملية استعادة نموذج اختزن حيوات أهلنا وآمال جيلهم. وفي هذه الحركة تعزيز لحالة النكران والقطيعة مع الحرب. هكذا كان وسط المدينة الجديد والمراكز التجارية ورفع الأجور والاستهلاك المفرط، فالاتصالات ودخول الهواتف الخليوية بالإضافة الى «كبر الاحجام» للبنى التحتية، فالمطار الجديد على أنقاض القديم، واحياء كاملة من العمارات الشاهقة مكان النسيج العمراني القديم في المدن… تحوّلات طيّرت أي علاقة مع ماضينا.
لكنّ «المستقبل» انهار، ومع هذا الانهيار، بدأ اللبنانيون يعودون إلى ماضيهم لتفقُّد إرثهم وذاكرتهم وأشلاء بلدهم. إنّه انهيار للوهم والتوهّم. إنّها ساعة جردة الحساب. توقّفت الموسيقى، انتهى السهر، وطويت صفحة الحياة الليلية.
لكن ما علاقة كل ذلك برحيل سامي كلارك إذاً؟
الهوس بالماضي
كلارك من جيل ما قبل الحرب وفترة الازدهار. أتى رحيله لحظةَ حنين لحكايا الأهل الجميلة عن لبنان القديم، المختلف عن لبنان المحاصر بالأزمات والمهدّد بالانهيار.
فمن يتابع الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يلاحظ الحالة الوجدانية للبنانيين، المشدودة الى «لبنان ما قبل الحرب الأهلية». فالمواقع الالكترونية المتخصّصة بـالأرشيف السياسي والاقتصادي تزدهر، حالها حال المواقع المتخصّصة بـالعمارة اللبنانية والبيوت اللبنانية القديمة، بالإنتاج الفني والمسرحي للرحابنة وغيرهم، وصولًا لإعادة اكتشاف الطعام التقليدي والمونة والإرث الثقافي غير الملموس… كم كانت مفاجئة لي نسبة من تابعوا بشغف وحسرة حلقات «صاروا مية» على محطة MTV، وهم من مشارب وانتماءات مختلفة.
فمنذ سنوات بات هناك ما يشبه الهوس حول هذا اللبنان القديم، والفارق بينه وبين لبنان الحاضر.
هذا ما فعله المتظاهرون في 17 تشرين حين دخلوا الى المبنى البيضاوي ومسرح التياترو في عملية استكشاف ماضي المدينة المطموس، وهذا ما يفعله الطرابلسيون حين يتطرقون الى معرض رشيد كرامي الدولي أو مصافي النفط أو ساحة التل، وهذا ما يفعله عموم اللبنانيين حين يواجهون الفساد فيتذكرون فؤاد شهاب، أو حين يقارنون وزراء خارجية الأمس بوزراء اليوم، أو صحافيّي الإمس بصحافيّي اليوم، أو فنّاني الأمس بفنّاني اليوم.
وهذا ما يحدث مع كل رحيل، مع كل إطلالة للموت. يكاد لا يمرّ يوم واحد من دون أن تطوى ورقة نعي على علَم طمست الحرب إنجازاته. إنه رجوع، وربّما نكوص إلى جوارير الذاكرة وخزائن الماضي ومجوهرات الأجداد، علّنا نجد ما ينقذنا من هذا الخراب، والإفلاس والذنوب، ومن قبحنا كما قال يوما نزار قباني.
هذه ليست بنوستالجيا بقدر ما هي رثاء ذاتي ورثاء لحلم.
لكن ما علاقة كل ذلك برحيل سامي كلارك إذا؟
رثاء متكرّر
كلارك من جيل ما قبل الحرب وفترة الازدهار. ورثاؤه بات رثاء هذه المرحلة في لحظة انهيارنا الراهن.
فمع كل رحيل أو ذكرى، نعود إلى الرثاء ذاته. ومع كل غياب، نرحل الى تلفزيون لبنان، والبيكاديلي، وشوشو، والأسود والأبيض! ومع كل عملية هدم، نرحل الى بيروت القديمة، وبحارة صيدا الأمس، وصفارات الترامواي وسكك أشباح القطارات.
مع كل رحيل، نتأكد أن الحرب قضت على كل شيء، وأنّه لم يبقَ شيء إلّا الرحيل.
هكذا نرثي كل ذلك الموت، فنرجع الى ذاكرتنا وأرشيفنا كما يعود أهل الفقيد إلى البيت بعد الدفن ليتفقّدوا وصيّته وأوراقه وثيابه وصوره وصوته المسجَّل. ولم يبقَ من هذا «الغائب» سوى القليل... احتياط الذهب في المركزي، ربّما، ونقاء الذكرى في صوت فيروز. إن خذلَنا الاحتياطيّ لسبب قد يطرأ، يظلّ الثاني ناصعاً يبرق حتى ليغار منه الأوّل.