1
حتى أبو أطفالي مهتمّ بالحرب الأهلية في لبنان هذه الأيام.
لمن لا يعرفني، كنت متزوجة من رجل نرويجيّ يتكلّم العربية بطلاقة ومهتمّ بالأوضاع الراهنة في المنطقة. نال منحة كتابية عن كتاب يعبّر من خلاله عن اهتماماته بما حصل لنا في لبنان منذ الحرب الأهلية إلى اليوم.
كان الوضع، الأسبوع الماضي، شديد الغرابة. أبو الأطفال جالس مع أبي الآتي لزيارتي من بيروت. يتحدّث الأب والزوج السابق عن تاريخ أبي النضالي. يطلبان مني صوراً أرشيفية لأبي، كنت قد خبّأتُها عندي في أوسلو، لِيَقيني أنها لو بقيت في بيروت لضاعَتْ مع كل ما ضاع من أشياء العائلة الحاملة للذكريات، جراء الحرب والتهجير، وبسبب التعب من حمل أعباء أرشيفية وتوريثها لمن يرغب بأن يرث من أجيال العائلة المتعاقبة.
آتي لهم بالعلبة وأقعد جانباً أصوّرهما على تلفوني وهما يتحدّثان. التلفون يخبّئ نصف وجهي ويخفي ذهولي وكلبيّتي المتوّلدة من هذا المنظر. الجميع يريد هذه الأيام أن يفتح علب الحرب الأهلية ويروي قصصها. حتى أنا صرت مهتمّة بقصص الحرب وأحاول أن أرويها في كتاب. معدتي تتقلّب كالغسالة، كما يحصل عند كلّ حادثة تسمُّم أتعرّض لها. أتمنى لو أتقيّأ وأُخرِج من بدني سمّ هذا الحديث الدائر في منزلي. تغار معدتي على رواية الحرب، وتعبّر عن خوفها من أي استغلال قد يعرِّض أهلها للإساءة. أشعر بالغثيان لأن زوجي السابق يتطفّل على رواية ليست له ليرويها.
لكن هل الروايات ملكٌ لأحد؟
2
يستمتع أبي بسرد بطولات الحرب في لبنان.
منذ طفولتنا تحت القصف، وهو يحب أن يروي لنا قصص المعارك. كلّ من يتعرّف عليه ينشدّ إلى تلك القصص. حتى زوجي السابق بات يحبّ سماع هذه الروايات. إبني الصغير أيضاً. وابنتي. أتذكّر كيف كنت أحبّ هذه القصص في صغري. أمّا اليوم، فأجدها رتيبة، لا تروي حشريّتي عن الحرب وأحداثها. فروايات أبي فيلم أكشن.
نتعارك، أنا وأبي، على سرد روايات الحرب. أي روايات أريد منه؟ ولماذا أريدها منه هو، ولا أكتبها أنا بنفسي؟ أسأله أشياء لا يحبّ الإجابة عنها أو لا يعرف إجابةً لها. طلبت منه، مثلاً، أن يشرح لي لماذا كان يتمنّى أن يموت شهيداً وهو أب لطفلتين؟ ألم يهتمّ بما كان سيحدث لنا لو صرنا أيتامًا من دون أب في زمن مجحف ضدّ المرأة؟ هيك كنّا، ما بعرف، يعيد ويقول وأنا أسأل مجدداً. جاء الجواب البارحة أخيراً: لو احتلّت إسرائيل لبنان يا بابا، يعني الولاد هيك هيك راحوا أصلاً.
أسأله أحياناً ألم تفكّر بالهجرة أبداً؟ يرتبك ولا يعرف ماذا يقول. ألحّ عليه. أذكّره بأنّ كُثُراً من أصدقائه ومن أهلنا الذين نحبّهم قرّروا الهجرة في ذلك الوقت. يَصفُن فيّ، وبعد برهة يقول: أنا ما بهرب، والهجرة بالنسبة لي هروب.
يقولها وهو جالس على الصوفا الصفراء في بيتي في أوسلو.
3
أوّل صفّ أعلّمه في الجامعة الأميركية في بيروت.
التلاميذ يقرأون رواية ليمبو بيروت لهلال شومان. في الصفّ تلميذان من حزب الله. ذكيّان ومنضبطان كالجنود. أستأنس بوجودهما في الصف. أتّكل عليهما أن يكونا قد حضّرا النص، فالعدد الأكبر من الطلاب لا يقرأ. أتفاجأ هذه المرّة بأنّ الطلاب قرأوا الرواية. لا شكّ أنّ العنوان حاكاهم بطريقة ما.
كان الجوّ في الصفّ مستنفراً. تدور أحداث الرواية في زمن 7 أيار واحتلال حزب الله لبيروت. ينفعل التلميذان الحزبيان بقوة ويصرخ أحدهما: لا أحد يخبرنا ما حصل في الحرب الأهلية في لبنان. أذكّر الطلّاب بأن أحداث الرواية من 2008. بس ما حدا من الكبار بخبرنا شي، ولا شي.
تنتهي الحصّة.
الكثير من طلابي لديهم آراء سياسية مع أو ضد هذا أو ذاك الحزب. وبعضهم ذهب في دورات عسكرية تدريبيّة على السلاح. وبعضهم يفضّل الهروب ويجد طرقاً شتّى لتربية حسّ عدم المبالاة.
وكلّ سنة في 13 نيسان، نعيد ونكرّر «تنذكر تما تنعاد».
4
لا يمكن لحرب أهلية بدأت سنة 1975 ولم تنتفِ أسبابها إلى اليوم، أن توصف كأنّها رضّة. هي مجموعة رضّات تتفاوت في الزمان والمكان بين مواطن وآخر. عشنا عنف الحرب في لبنان، الكل على قدَره ونصيبه. أصدقاء فقدوا أحبّاء، وآخرون شهدوا على مجزرة.
أما نحن، فكنّا في منزلنا الجميل ذات الحديقة المزهرة في الرويس في ما يُعرف اليوم بالضاحية. هناك كنّا نتفرّج على أمّي تنهار يومياً، لكون أهلها في مخيم برج البراجنة، على بُعد أقلّ من كيلومتر من الرويس، محاصرين من قبل حركة أمل والنظام السوري. هناك أيضاً شهدنا على تشيُّع أطراف المدينة وعلى نساء يصرخنَ على أفخاذ أمّي «يا علي»، ورجال في أيديهم سيوف وجباههم مدمّاة أيام عاشوراء. هناك أيضاً كاد أبي أن يُقتل بينما اختبأنا نحن مع جدتي الفلسطينية بخزانة جدتي اللبنانية.
الرضّة ليست في الذكرى، بل في قانون العفو العام الذي كرّس نبيه برّي رئيساً لمجلس النواب بالرغم من كل المجازر والسرقات والترهيب التي كان مسؤولًا عنها في الثمانينات.
5
ذهبت إلى السينما في أوسلو لأشاهد فيلم Memory Box للمخرجَيْن جوانا حاجي توما وخليل جريج. فجأة انقطعت الكهرباء بأول الفيلم واضطرت السينما لإعادته من أوّله. للفيلم خطٌّ سرديٌّ بسيط عن ثلاثة أجيال من لبنانيات يحاولنَ أن يمتلكنَ رواية الحرب الأهلية بطرق مختلفة. وحدَها أصغرهنّ كانت مقتنعةً بأنّ رواية الحرب ليست ملك أحد، وأنّه يجب على أمّها أن تشاركها.
لكنّ قصّة الفيلم الحقيقية تكمن فينا نحن، في ذكرياتنا نحن المتفجّرة على وقع انكشاف صور وروائح وأشياء من الحرب. يشبّه خليل جريج هذه الأشياء ببسكوتة مارسيل بروست التي تقع على لسانه كانفجار ذكريات لم يكن يعي أنها مخزّنة فيه. تذكّرت من خلال الفيلم كل ذلك الخوف الذي كنت قد خزّنتُه ونسيتُه. خوف قديم وعفن، رعب غير منطقيّ تسرّب إلى سلسلة الظهر وعشّش فيها. خوف جعلني فيلسوفة الشجاعة لأولادي. أخبرهم أنّ الشجاعة هي العمل على ما هو صحيح بالرغم من الخوف. أقول لهم هذا في أوسلو، فالخوف هنا لا يشبه الخوف هناك.
الفيلم عملوه ناس متلي، هربوا من البلد وراحوا يعيشوا برّا. ومن برّا قاعدين بيحكوا وبيعملوا أفلام عن بلد على حافة المجاعة والمستقبل تبعو خراب متل حاضره. يللي جوّا ما بيحبّوا الناس يللي قاعدين برّا يستغلوا روايات البلد ويبنوا career بينما يللي بقيوا جوّا مش عارفين من وين يجيبوا مي ليتحمّموا وأيرُن بالـcareer بالوقت الحاضر.
المطلوب من المغادرين هرباً ألّا ينظروا بعَيْن إديث، زوجة لوط إلى المدينة، فالملح آتٍ مع تلك الالتفاتات لا محالة، ومن علامات الانتقام.
6
حفيد ميشال المرّ مرشّح انتخابيّ.
مَن يملك رواية توريث المناصب في لبنان؟ هل هناك رواية أصلاً أم سجلّ زمنيّ مستقيم يبدأ بعهد المتصرفيّة ولا ينقطع مع دخول لاعبين جُدد على الساحة كنبيه برّي وسمير جعجع وغيرهم من سياسيي ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان. وحدَه التوريث السياسي والاقتصادي يبدو في خطّ مستقيم لا ينقطع. القطع والبتر والخسارة لنا نحن مَن لا نملك أي شيء نرثه أو نورّثه أو نتنازع عليه غير الحكايات.
7
الثمين في العودة إلى الثمانينات ليس القصص والسرديات بحدّ ذاتها، وإنّما التذكير بأن الحرب لن تصبح من الماضي في لبنان ما دام مَن يحكمنا هم أنفسهم مَن قتل وخطف وسرق ودمّر في زمن الحرب. بقدر ما كان زمن الحرب قطيعةً وبتراً مع ما سبقه، بقدر ما هو مستمرّ في الحاضر اللبناني المدمَّر. قد يكون اهتمامنا بروايات الحرب اليوم إقرارًا ضمنيًا بهذه الاستمرارية.
الثمانينات حاضرنا الدائم اللئيم. ولكي تصبح ماضياً، قد تكون الروايات الكثيرة إحدى أرخص الأدوات من أجل انتزاع السياسة من أيدي المجرمين في لبنان.