نص الثمانينيّات
شادي علاء الدين

أهل الحنين المساكين

عن الحنين الدرامي إلى خفّة غناء الثمانينات

12 أيار 2022

الحنين من خواء الأزمة

تستعاد حاليّا وبوتيرة ملحوظة أسماء 

عازار حبيب ومروان أدهم والأمير الصغير ورونزا وحكمت وهبي ومحمد حجازي وفاهد عكيكي وأديب أبو أنطون وجوزيف نمنم وسمير حنا وملحم بركات ووليد توفيق ومادونا وعماد صياح وسامي كلارك ومنعم فريحة. 

تحمل كلّ استعادة مفهوماً عن الزمن الذي تجري فيه. 

يُصنع الحنين من خواء الأزمنة وفراغها والرغبة المحمومة في سدّ الفراغ بعناصرَ صلبةٍ ومجربة. وإذا كانت الخفة التي سيطرت وسادت في غناء الثمانينات هي عنوان الاستعادة، فإنّ في الأمر حكماً ينطوي على دمغ زماننا بالثقل والنظر إلى عيشنا بوصفه ألماً متّصلًا. 

لم تنجح الخيارات الغنائيّة السائدة حاليّاً في أن تنزع عن زماننا هذه الملامح، ولا أن تستأنف المزاج الذي سيطر على روح الثمانينات. فالمزاج الغنائيّ السّائد حاليّاً يقيم شبكة علاقات مع الجمهور تعنى بإبراز ما لا يستطيع أن يكونه أو يعيشه أو يحصل عليه. إنه خطاب سلطة فاقع يستدعي المسافة ويكثّفها. 

حرص غناء الثمانينات على حل هذه الإشكاليّة. وربّما يمكن القول إنّه كان قليل الاكتراث بها. فقد ابتعد عن السجال في المعنى والوظيفة والدور، وحدّد لنفسه مهمة واحدة تتمثّل في صناعة جو البهجة والمرح، بحيث لا تلعب العناصر المشكّلة للأغنية من موسيقى وتوزيع وكلام وأداء سوى دور تآلفي منسجم يصب في خدمة هذا المفهوم العريض.


مزاج ثمانينات لبنانيّ

كان لبنان سبّاقاً في تبنّي هذا الاتجاه. 

فموجة تغليب الإيقاعات الراقصة والأغاني الفرائحيّة إذا صحّ التعبير، والخروج من أسر الفرقة الموسيقيّة الكبيرة، والاكتفاء بـ«الأورغ» بشكل عام بدأت في لبنان في أوائل الثمانينات. وصُنِع مزاج ثمانينات لبنانيّ يمتاز بالرخاوة والتخفّف من التجهّم وثقل غناء وديع الصافي والأيقنة الفيروزيّة. لكن لم يتبلور هذا الاتجاه في سياق مشروع متكامل الأركان. 

ربّما تكون صباح الوحيدة بين نجوم الجيل السابق المكرّسين التي حاولت تقديم إضافة إلى تراثها المتميز في أساسه بالانحياز إلى المرح عبر حرصها على التماهي مع خفة المرحلة. فأطلقت أغنيات يمكن اعتبارها منتمية في المنحى والنوع إلى مزاج الثمانينات العام. لكن بقيت مع ذلك موصولة بتاريخ صباح وسيرتها، ولم تستطع التخلّص من هذا السجن، على الرغم من أنّها لم تتورّع عن غناء لحن لإلياس الرحباني اعترف أنّه كان يعدّه في الأساس كدعاية لنوع من أنواع المعكرونة، وهو لحن «وعدوني ونطّروني».

حال صباح تكرّر مع معظم نجوم الثمانينات في لبنان، إذ أنّهم لم يستطيعوا تأليف اللحظة وصناعتها، لأنهم ظلّوا موصولين بمراحل سابقة ومدرجين ضمن نتاجاتها وسياقاتها بشكل من الأشكال. لهذا السبب حُرموا من ريادتها والنطق باسمها، إذ أنّ معظمهم لم يبدأ نتاجه في الثمانينات، بل عبر إليها وفي مظهره وفي صوته وطريقة أدائه الكثير من آثار الكلاسيكيّة. فاستمدّ نجوم الثمانينات في لبنان شرعيّتهم من إجادتهم لأنماط غنائيّة تقليديّة وشائعة، وامتلاك أصوات قادرة على تقديم تلك الأنواع. فالانتقال الى الغناء الخفيف كان نوعاً من مجاملة ومسايرة للزمن، ولم يكن تعبيراً عن مشروعٍ أصليّ وأساسيّ، خصوصاً وأنّ طبيعته لم تكن تعنى بإبراز التباين في القدرات بين الأصوات الطربيّة والأصوات العاديّة. كان المعيار الاستجابة لمتطلبات النوع وشكله وحسب، ما أتاح السماح بظهور نجوم هم في الأصل مونولوجست وكوميديّين، ووقوفهم إلى جانب أصحاب الأصوات المتمكّنة والقديرة، لا بل التفوّق عليهم.

فالجدير بالذكر أن أبرز «هيتات» الثمانينات التي ما زالت تتفوّق على كلّ ما صدر في تلك المرحلة من أغانٍ هي أغنية «ليندا ليندا يا ليندا» لجوزيف نمنم، حيث يندر أن تجد من لا يعرفها، في حين تتفاوت درجة شهرة الأغاني التي كانت ضاربة في تلك الفترة.


جيل ثمانيناتي مصري

في موازاة هذا الجيل الغنائيّ اللبنانيّ، ظهر جيل مصري مع تسونامي أغنية «لولاكي» لعلي حميدة من توزيع حميد الشاعري الذي تحوّل إلى صانع لتلك المرحلة، وتمّ تكريسه كخالقٍ رئيسيّ لموسيقاها ومزاجها. 

استطاع الشاعري امتلاك ناصية غناء الثمانينات، مع أنّه جاء في أواخرها. ونجح في إطلاقها عمليّاً مع أغنية «لولاكي» التي لم يلحّنها، بل وزّعها. أسّس بذلك لمدرسة تقوم على أهميّة التوزيع، وكذلك نجح في خلق النسخة الناجحة من عمرو دياب، والتي كرّسته نجماً عربيّاً لا يزال متربّعاً على عرش النجوميّة المطلقة منذ تلك اللحظة التي وزّع له فيها الشاعري شريط «ميال» (1988) وشريط «شوقنا» (1989). وقد تمكّن دياب من تجديد نفسه باستمرار، مع الاحتفاظ بروح تلك المرحلة.

انتسبت مرحلة الثمانينات لناحية التأصيل الفني والمزاج إلى حميد الشاعري، والسبب في ذلك يعود إلى أنّه تبنّى الخفّة بشكل كامل في كلّ شيء، من منطق التوزيع إلى الشكل والحركة والسلوك والمظهر. ونجح بذلك في أن يكون صاحب الخفة الّتي تستعاد في وقتنا هذا بوصفها فردوساً مفقوداً.


الصديق في الفانيلا

تتمثّل معالم هذا الفردوس في منطقه. الغناء الذي جاء به الشاعري كان في أصله دعوةً إلى الحركة والرقص، وكان يتّجه تالياً إلى الخارج ويشتغل فيه. فهو غناء لا يجب تلقيه في العزلة، بل يقوم على المشاركة ويستحضرها.

المغني في هذا المقام لم يكن يمتلك الغناء. كان يطلقه وحسب، وكأنّه وسيلة تمرّ من خلالها الأغنية. كان واحداً من جمهور أغنية تسيل على الأرصفة وفي المقاهي وتنتشر في الفضاء العام بسلاسة عارية من الطقسية.

ولم يكن ذلك الغناء طرباً ينتج مجاذيب ومهووسين وخاشعين، بل كان عكس ذلك تماماً. كان ذلك الصديق الذي تستقبله دون حرج بالفانيلا والشورت وتحكي له آخر نكتة.

ما نشتهي الآن العودة إليه هو تحديداً تلك اللحظة التي نتخفّف فيها من كلّ أنواع السلطات ونركن إلى الخفّة. نحيا اليوم تحت وطأة سلطات تتكثّف وتتصلّب وتجرّنا إلى العزلات حيث لا يمكن للغناء سوى أن يكون تعذيباً. أجبرتنا سلطات زماننا على الخروج من كلّ تناغم مع إيقاع الحياة والعالم، إذ وضعتنا تحت نير التسارع الديجيتاليّ للأحداث والأفكار والتقنيات وأنماط الحياة. 

العودة الحزينة إلى مرحلة الثمانينات هي بحث عن التناغم مع العالم ومع الغناء وإعادة إطلاق الجسد ليحتلّ موقعه في العالم.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024