السهر تحت الحصار
كنتُ في سهرة حين استذكر أحدٌ من حولي «الثمانينات» للمرّة الأولى.
السهر تحت الحصار: مع قدوم الوباء منذ سنتين، عاد السهر إلى المنازل، محاطًا بقوانين حظر تجوّل وأخبار عن انتشار مرض وترداد لأعداد الوفيّات وثقل في الجو. تحوّلت لقاءاتنا الليلية إلى نوع من «السهر تحت الحصار»، وساعاتُ السهر إلى هروبٍ ليليّ من يوميّات الوباء والانهيار. لهذا النوع من السهر طعمه الخاص، فيه شيء من العبثية المحرّرة، عبثية تؤمّن بعض الراحة من حالة الانهيار الراهن.
في إحدى تلك السهرات، نبش أحد الأصدقاء من أرشيف أهله موسيقى سهراتهم، وقتها، في «الثمانينات»، وبدأ يلعبها. بدت تلك الأغاني راهنة، رغم مرور أكثر من أربعين عامًا عليها، وكأنّها صدرت البارحة، وكأنها صدرت لتلتقط عبثية لحظتنا الحالية.
ما بدأ كاستذكار عابر للموسيقى، سرعان ما تحوّل مع تردّي الأوضاع من حولنا، إلى عودة إجبارية إلى تلك الحقبة، وكأنّ للانهيار عقدًا تأسيسيًا، وهو الثمانينات. فبدأ السهر محكومًا باعتبارات «تقنية»، كدوام انقطاع الكهرباء وتجهيزات المنازل بالـ«يو-بي-أس» وعدد الطوابق التي يجب صعودها بالعتمة. عادت حركات من طفولتنا، كرمي المفتاح من البلكون أو تجهيز بطاريات لما بعد منتصف الليل. وبدأت العودة إلى الثمانينات أكثر منهجيةً وتكرارًا.
الثمانينات باتت بيننا، وعادت معها أسئلة طفولتنا الدائمة لأهلنا:
كيف استطعتم أن تسهروا وتضحكوا وتشربوا في الثمانينات؟ في الحرب؟ من دون كهرباء؟ مع الموت والرحيل من حولكم؟ كيف استطعتم أن تنجبوا، أن تنجبونا، في تلك الظروف؟ ولماذا؟
لم يجب أهلنا على هذا السؤال. كانوا ينظرون إلينا باستغراب عندما كنّا نطرح هذا السؤال، وكأنّ لا معنى له. أمّا نحن، فلم نفهم تلك الكائنات الثمانيناتية، تلك الكائنات التي تنجب في ظل الخراب وتسهر في ليالٍ معتمة وتضحك في وجه الانهيار. لم نفهمها، نحن كائنات التسعينات، كائنات ما بعد الحرب، ما بعدهم.
لم نفهم واستبدلنا الفهم بالذنب، ذنب مَن لم يضطرّ للسهر في الثمانينات، إلى أن بدأنا نسهر اليوم في الثمانينات بعد عودتها.
اللقاء مع مار الياس
في هذا الجو الثمانيناتي، لم يبدُ غريبًا عرض فيلم «بيروت اللقاء» (1981) لبرهان علوية في متحف سرسق.
كنت قد اشتريت «الدي-ڤي-دي» قبل سنوات، ولم أحضره. فبات، كمعظم كتبي، جزءاً من لائحة ذنب ثقافية، تطول مع السنوات لتضّم كل ما لم أحضره أو أقرأه. فجاء عرضه في نسخته المرمّمة حلًا لأزمة الذنب هذه. بضع ساعات وأستطيع أن أشطب عنوانًا من هذه اللائحة.
آثار الزمن الذي يفصلنا عن الفيلم ظاهرةٌ، رغم ترميم سطح الصورة.
هناك شيء في خطابات هذا الماضي التي لا تُهضم، في رغبتها الانصهارية لتوحيد المجتمع، أو هاجسها لكسر الحواجز الاجتماعية، مهما كانت: مسيحية تحبّ مسلماً، ثريّةٌ تراسل فقيراً، بيروت الغربية تبحث عن بيروت الشرقية… فتبدو الروايات والخطابات التي أنتجتها هذه الحقبة نوعًا من «القمع» (بالمعنيين للكلمة) النظري، كلّ ما يدخل إليها يخرج منها منصهرًا ومجرّدًا ووحداويًا.
ترميم سطح الصورة لم ينجح بمنع تسرّب الماضي إلى الحاضر، أو بكلام أدقّ، تفلّتت الصور ومشاعرها من الكلام ودروسه. فبدأت تعود بيروت الثمانينات، بيروت طفولتي، إلى ذاكرتي. فكانت هذه الذكريات تعاني من حصار مزدوج: حصار الراشد تجاه سنّ الطفولة، وحصار «دروس الحرب» الذي فرضه خطاب الذاكرة تجاه الثمانينات. فلجيلي، تطابقت الحاجة النفسية مع الواجب السياسي في نبذ هذا العقد، عقد الطفولة المربكة وعقد الحرب المدمّرة.
أسكتُّ رسائل أبطال «بيروت اللقاء» وسمحتُ لنفسي بالعودة بصريًا إلى هذا الماضي. ليس إلى الثمانينات المجرّدة، ثمانينات الحرب الأهلية ودروسها، بل إلى ثمانينات شارع مار إلياس، إلى شقّة خالي مارك، التي كانت فوق شقتنا، إلى سطيحتها التي كنّا نعاين منها الحيّ وتحوّلاته، إلى بيته المحاط بنور من كل الجهات. هنا، وجدتُ مارك، صامتًا، ضاحكًا، في دشداشته الصيفية، محاطاً بالحرب ولوحات سمير خداج، وكراكيب الماضي. كان مارك ناطور الحرب الأهلية، يمنع تسرّبها إلى حياتنا، بقدر إمكانياته، يجمع مفاتيح شقق الأصدقاء، ليطفئ حريقة من هنا أو ليتأكّد أنّ لا أحد يحتل منزلًا من هناك. وكأي ناطور بناية، لم يترك مارك الثمانينات وحربها، حتى بعد انتهاء الحرب. فتحوّل إلى إحدى صورها، كصور اختطاف طائرة «TWA» أو صور ظهور رجال حزب الله أو صور لحوم أزمة تشرنوبيل. وكـ«بيروت اللقاء»، لم يتأقلم مارك مع نهاية عقده. فتحوّل إلى لاجئ من الثمانينات في أرض التسعينات.
الهجرة من الثمانينات إلى عالم الرمزيّة
لم يبدأ اللقاء بالثمانينات مع «بيروت اللقاء». كان قد سبقه لقاء غير متوقّع في مسرح في باريس حيث كان وجدي معوّض يعرض مسرحيته «الأمّ» (2021) التي تروي السنوات الأولى لهجرة عائلته إلى باريس من بيروت الثمانينات. رغم العنوان الدراماتيكي، لم تكن المسرحية عن «الأم»، بل عن الهجرة وعن التأقلم الصعب مع بلد جديد ولغة غريبة، وعن الانسلاخ عن الطفولة، وعن ذنب المهاجر الذي يتخيّل أنّ نجاحه محكوم بلحظة الفرار الأوليّة، وعن أهل الحرب، تلك الكائنات التي أنجبت بالحرب واضطرت إلى استبدال حب الأهل بحماية الراشدين. لم يقل وجدي معوض الكثير أو الجديد، فهو أيضًا بقي في الثمانينات، أو بكلام آخر، لبنان الثمانينات بات له لغز أو رمز، يجب تفكيكه أو فهمه. ولم يفهمه في الآخر.
والرمزية هي صفة فيلم «دفاتر مايا» (2022)، من إخراج جوانا حاجي توما وخليل جريج، الذي ينسج علاقات شبيهة بين الذنب والنوستالجيا والهجرة والثمانينات، وكأنّه قد حان الوقت في عالم الفن للعودة إلى هذا العقد الأسود. فمن خلال دفاتر طفولة الأم، تعود ابنتها إلى الثمانينات، من مونتريال هذه المرة، ومن خلال هذه العودة إلى إعادة نسج علاقات بين ثلاثة أجيال من اللبنانيات المهاجرات. في رمزية فائقة، يسرد الفيلم الثمانينات كتجميع لصور من الطفولة، تحاول البحث عن معنىً في هذا العقد بعدما أسقطت المعاش عنه. فيتحوّل الفيلم إلى نزهة في متحف الغرائب، يحاول بصعوبة سرد عادات وطقوس تلك الكائنات الغريبة، تلك الكائنات التي أَنجبت بالثمانينات.
عادت الثمانينات من طريق الهجرة، من ذكريات مهاجرين، ليتحوّل تمثيل الثمانينات «رمزيًا»، كلحظة يشار إليها من خلال رموز وإيحاءات، كالأكل أو اللبس أو التواريخ الجماعية، تشير جميعها إلى تروما الفقدان. الرمزية ليست فقط المدخل لفهم هذا العقد، بل هذا العقد يتحوّل بهذه الأعمال إلى رمز أو إشارة إلى الشرّ المطلق، عقد الانهيار والدمار، الذي يجب العودة إليه لفهم أي حالة انهيار. وكأنّ خراب الحاضر لا يصبح واقعًا إلّا عندما ينجح في امتحان المقارنة مع الثمانينات.
الهجرة إلى الثمانينات
وصل إيميل من منصّة «أفلامنا»، تعلن فيه بدء عرض فيلم «رسالة من زمن المنفى» (1988) لبرهان علوية.
لم أكن أدرك أن «بيروت اللقاء» هو الجزء الأول من ثلاثية تنتهي مع الهجرة، وكأنّ في هذه الثلاثية تكرارًا للحاضر ولثلاثيته، ثلاثية «الثورة، الانهيار/الانفجار، الهجرة».
يتابع الفيلم موجات الهجرة الثمانينية إلى باريس، معاكسًا اتجاه الأعمال الراهنة التي تعود من باريس إلى الثمانينات. الخطاب منفّر مجدّدًا، ولكنّ الصورة كافية لإعادتي إلى الثمانينات، الباريسية هذه المرة. ليس موضوع الصورة هو ما يعيدني إلى الماضي، بل نسيجها المبرغل وملمسها الخشن وهفوت ألوانها ورداءة صوتها. لاحظت حينها أنّني لم أستطع اختبار باريس خارج هذه الخشونة والرداءة البصرية، مهما عدتُ إليها من بعد، مهما تحسّنت التكنولوجيا. بقيت باريس لي ثمانيناتيّةً، عالقةً في تقنيات الـVHS، تهترئ شيئاً فشيئاً كلما أعدنا لعب الشريط.
لا أدري لماذا أعادتني هذه الصور الباريسية إلى مارك مجدّدًا، هو الذي سكنها لسنوات بعدما غادرته بيروته إليها في موجات متتالية من الهجرات. لم أتذكر الكثير من تلك الزيارات. فـ«عودة المقموع» أيضًا تأتي بتقنيات رديئة ومشاهد محذوفة وألوان هافتة. كل ما أتذكره أنّه اختفى لفترة في باريس، بعدما فقد عمله كناطور للحرب. وقبل أن يقرّر العودة إلى بيروت، كانت المدينة قد تغيرت ولم تعد تشبهه.
لم تكن الذكريات مرتبطة بالضرورة بموضوع، أي باريس، بل كانت نابعة من التكنولوجيا والمشاعر النابعة منها. كأنّ في تلك الرداءة والغربلة كآبة ما، خاصةً عندما نقارنها بلمعان التقنيات الجديدة، لكنّها كآبة تنطوي على شيء من السعادة. كأنّه في الثمانينات، لم يكن لدينا ترف تضادّ الكآبة والسعادة، لم يكن لدينا الوقت لثنائيات كهذه.
الكآبة سعيدة والسعادة كئيبة في الثمانينات. أكثر من ذلك، نعود إلى عالم خطابات الماضي البائتة ورمزية المغتربين الجدد. الكآبة سعيدة والسعادة كئيبة، هكذا كان مارك.
روماتيزم
اتصل بي صديقي لكي يقول لي إنّه قد يعاني من الروماتيزم. أجساد مَن حولي، أجساد جيلي، باتت مكلّسة وهافتة ورديئة، كشرائط الـVHS. كنا مقتنعين أنّنا جيل التسعينات، جيل الإعمار، فها هي أجسادنا تذكرنا بأنّنا أقدم من ذلك، أعضاؤنا تعود إلى عقد سابق، إلى هذا المقموع الذي يدعى طفولةً في الثمانينات. ربّما، لذلك، لن أستطيع أن أشاهد أي عمل فني عن تلك المرحلة من دون أن أفهمه كتعدٍّ على هذه الطفولة، كمحاولة لإعطاء معنى عامّ لما هو قيد التكوين في الخاص.
ربّما، لذلك أيضًا، لا أستطيع العودة إلى تلك الحقبة من دون مارك، هو من حاول أن يروّض الحرب لكي يجعلها أقلّ قسوةً علينا. كما حاول أن يقدّم صورةً مختلفة عن الرشد، صورة طفل كبير، وكأنّه يجبرنا من خلال تلك الصورة أن نعود أطفالًا، نحن الجيل الذي كبر بسرعة. كأنّه يجبرنا أن نعود أطفالًا، وإن لبضع لحظات، كأنّه يعتذر من الحرب، يعتذر ممّا سرقته منّا، يعتذر من الكائنات التي أنجبت في ظلّ الخراب، يعتذر من مسؤولياتها. فيحاول أن يعيد الزمان إلى حيث يجب أن يكون، إلى زمن الطفولة، ريثما ينتهي القصف.
فالكائنات التي أنجبت في ظل الانهيار، أنجبت أطفالًا كبروا بسرعة.
تعود الثمانينات اليوم. ربّما لن تكون العودة حربًا ودمارًا، وقد تكون أسوأ، تفوق الرمزية التي تقدّمها الثمانينات لفهمها. وهذا ما يخيفنا. فما يعود اليوم هو الأسئلة، كيف استطعتم أن تسهروا وتضحكوا وتشربوا في الثمانينات؟ لكنّها أسئلة موجّهة إلينا، نحن الأطفال الذي كبرنا بسرعة، كيف استطعنا أن نسهر ونضحك ونشرب في الـ2020؟ أواجه هذا السؤال، وبدأت أفهم أهلي واستغرابهم. وأواجه هذا السؤال وأتذكر مارك ونعومة الحرب بوجوده. الكآبة سعيدة والسعادة كئيبة في الثمانينات.
لذلك، ربّما، لن ننجب أطفالًا سيكبرون بسرعة، ولن نتحوّل إلى كائنات أنجبت في ظل الانهيار.