نظرة ثورة تشرين
غسّان سلهب

إن لم يبقَ سوى جدار واحد

30 تموز 2023

ثورة على أنفسنا. ظهرت هذه الكلمات الثلاثة للمرّة الأولى في وسط بيروت، وقد أُضيفت الكلمتان الأخيرتان، «على أنفسنا»، إلى كلمة «ثورة» التي كانت تُرسم في كل مكان، على أكثر من جدار، في أكثر من حَي. ورغم أنّها كانت تُهتف من صميم القلب، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى مجرّد شعار، وثن جامد، فعل أُعيق مساره.هاتان الكلمتان أُضيفتا باللون الأسود، فحاولتا خلق امتداد للكلمة الأصلية (التي كتبت باللون الأزرق السماوي)، لتذكّرانا بأنّ حقل الثورة كان شأناً شخصياً وحميمياً على حدّ سواء، ولتحاولا أن تفسحا مجالاً أبعد من الرمزية ومن داخلها. 

هتف هذه الكلمات بعد فترة وجيزة شاب خلال تجمّع في شهر تشرين الأول 2019 في ساحة النور في طرابلس: إنها ثورة على أنفسنا، إعادة نظر أولاً وقبل كل شيء. ثم أخذ شخصٌ آخر مكانه على المنبر منشداً الجملة الشهيرة «الشعب يريد إسقاط النظام». هل سمعتُ هذا الشاب فعلاً، أو ربّما رأيته في شريطِ فيديو، أم أن أحدهم أخبرني عنه؟ هل تخيّلته؟ بعض جدران العاصمة ما زالت تحمل هذه الكلمات. كانت في المرة الأولى على يد امرأة. ما طرأ فجأةً في حياتنا قد قَلبَ أو كاد أن يقلب حياتها الماضية والحاضرة. من المؤَكّد أنّها لم ترغب في تلقيننا درساً. كان ذلك ما حدث في حياتها فعلاً، في داخلها، هنا، الآن. إنّه ما كان يحدث حقاً، في الحاضر. في تواصلٍ تام. أشخاص عدة، نساء بالأخص، فتكوا بأكثر من جدار، بأكثر من واجهة، على الأسفلت. أكثر من جملة، أكثر من نشيد، أكثر من صدع، «ليطق شرش الحيا!» علَينا أن نصرّ. 

على هذا الجدار الصغير في نهاية شارع الحمراء، هناك كلمة مطبوعة في الأعلى، بلونٍ أحمرٍ أقل سطوعاً، الحرف الثالث ممحو جزئياً، بخطٍ أقل استدارة. يمكننا أن نقرأها «الدوام». على الدوام ثورة على أنفسنا؟ أو بكل بساطة، هل هي دوام ساعات الركن بما أنّه جدارُ موقِفٍ. هناك أيضاً هذه الأرقام الثلاثة:7 30، مع واصلة بينها. إنّها ساعة مُبكرة جدّاً لتكون موعد «العشية الكبرى»، إلّا إذا كانت تُشير إلى صباح اليوم الذي يلي الانقلاب الكبير بينما أفواهنا لا تزال جافة. أيام الغد الحاسمة. ماذا لو دعتنا هذه الكلمات الثلاثة، جدّياً، إلى إدارة ظهورنا أخيراً لكل محاولة استيلاء على السلطة، إلى قلب مفهوم السلطة بحدّ ذاته، قلبها على ذاتها. 

كان ذلك رهان مُناصري زاباتيستا في تشياباس، ولا يزال. كتب نائب القائد ماركوس: «يُقال لنا إنه من المستحيل فعل ذلك، وإنه ليس موجوداً في أي نظرية سياسية، ومن المستحيل تخيّل ثورة سياسية من دون الرغبة في الاستيلاء على السلطة». بالطبع سخروا منه، نعتوه بالخبيث، بالمهرّج، وحتى بالدجال. كان بوسعهم أن يجيبوه بأن تحقيق هذا الأمر أقل تعقيداً في مجتمعٍ مُتجانسٍ كمجتمع السكان الأصليين الذين يعيشون في هذه المنطقة من المكسيك. مع ذلك، رغم تعقيد أنماط عيشنا الحديثة، يستحيل علينا استدراك أن أي استيلاء على السلطة يدقّ حتماً نهاية الثورات السياسية، حتى إن هذا الاستيلاء يقضي عليها. إنها جنازة تكرّرت مراراً. 

من المستحيل أن نصرّ على سلوك هذا الدرب ذاته، معتبرين فشلنا الماضي مجرّد أخطاء استراتيجية، أو تحالفية، أو غيرها. كما أّنه من المستحيل ألّا ندرك أنّ الأمثلة المضادّة النادرة منذ (على الأقل) الثورة الصناعية المشؤومة، هي التي مورِست فيها أفقية سياسية حقيقية، مع تقاسم لكافة المسؤوليات، مهما اختلف النطاق. إن هذه الأمثلة المضادّة لم تستطع الاستمرار لوقتٍ كافٍ كي تقدّم بديلاً قابلاً للتطبيق، إلا إذا كان المرء يعيش بعيداً عن أي «حضارة» وعن الشهوات النهمة التي تصحبها. 

لطالما كان أخصامنا جبّارين، اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهم يلغّمون بلا كلل كل الميادين، مستخدمين كافة أنواع الأسلحة، تقليدية كانت أو متطوّرة، مراقبين كل تحرّكاتنا وأفعالنا، مفكّكين رموز جميع مغرياتنا وأقل تردّداتنا. لكن يبلغ أخصامنا ذروة خطورتهم في قدرتهم الدائمة على تقفّي، منذ خطواتها الأولى، أي بادرة طارئة أو أمر غير متوقع، حيثما قد يحصل، ليس بهدف القضاء عليه بل لتحويله وإعادة تدويره بأسرع وقت ممكن في تروس هذه الآلة الهائلة، آلة «مجتمع المشهد». لا تزال هذه الآلة تخرق كل أشكال الأنظمة السياسية، لا تنفك بالتجدّد تكنولوجياً، وتتغذّى من كل شيء ونقيضه، بما في ذلك من الانتقادات الأكثر حدّة وراديكالية، ناهيكم عن آخرها: «الغسيل» السياسي الشامل. وإذا اتّضح أن التحويل مستحيل، إذا أصرّ اللامتوقّع وأصبحَ مقاومة، فسيكون ردّ الفعل قاسياً بكل بساطة.

ثورة على أنفسنا، فلا ننفكّ نجنح مراراً وتكراراً على الشِّعاب ذاتها، ونعدّ أمواتنا مراراً وتكراراً، ونحبس دموعنا واستياءنا مراراً وتكراراً. لسوء الحظ، لا يكفي أن نضع الأفقية بوجه العمودية. من دون خط سياسي قوي وواضح، منفتح باستمرار، مهما بدا ذلك متناقضاً، نحن مهدّدون بالغرق. لم ننفكّ نشعر بذلك، هنا كما في أي مكان آخر. لكنّ بالوقت ذاته: كل خط سياسي قوي وواضح يميل للأسف إلى جعلنا نتخطّى بسرعة العتبة التي تفصل الاستبداد عن السلطة، والتي تقرّبنا بشكلٍ «طبيعي» من الطغيان، وإن كانت تبدو وكأنّها تسمح باتّخاذ القرارات الصائبة. نعرف جيداً أن الطغيان ليس بعيداً أبداً، بل هو متربّص، في الحالات الطارئة بالأخص. عندئذٍ، تجري الأمور بسرعة فائقة وبالكاد لدينا الوقت كي ندرك هذا التجاوز المشؤوم.

كان بوسع عدم تجانس مجموعات التمرّد في نهاية العام 2019 أن يقترح (على نفسه أيضاً) إعادة نظر حقيقية، وأن يقلب أي يقين ويغيّره. من المؤكّد أن الوقت الذي سلبناه آنذاك لم يكن كافياً. إضافةً إلى الأخصام المتنوّعين الذين يفتكون على  كافة المستويات، أتت جائحة كوفيد لتبطىء الزخم بشكلٍ حاد. لا بد أن انفجار 4 آب 2020 الرهيب والمظاهرة الهائلة في 8 آب، والتي كانت بمثابة النَفَس الأخير، أغرقتنا بالكامل. الحقيقة البسيطة هي أنّنا لم ننجح في تحويل تمرّدٍ حدسيّ إلى مشروعٍ سياسيّ (وإلّا، في ما يسمى بـ«الوسط»، أي المطالبة بدولة القانون الأبدية، كأنّ هاتين الكلمتين يُفترض بهما أن تكونا كلمة واحدة، كأنّهما صيغة سحرية، كأنّهما قاصِران على التفسير أو على الطَيّ بحسب طلبنا)، إلى عيشٍ مشترك، عيشٍ معاً بدايةً. ولكن سرعان ما طغت مسألة السلطة وقطعت المجال لأي نقاش.

ثورة على أنفسنا، ثلاث كلمات ما عاد أحد يعيرها أي انتباه، ولم يعرها أحد أي انتباه بكل صراحة، لكنّها تبقى، رغم كل شيء، معلّقة. قد نقول لأنفسنا إنّ جداراً واحداً يكفي. لكنّ هل هذا عزاء صرف؟ 

في زمن دمار الكائنات الحية هذا، الذي لا سابقة له، لا يسعني إلّا أن أعود إلى كتاب بيير كروبوتكين المهم بعنوان «العون المتبادل: أحد عوامل التطور»، الصادر عام 1902، الذي ينقض الداروينية الاجتماعية الزائفة والصراع المزعوم «لأجل الحياة»:

«ليس حب جاري— الذي غالباً لا أعرفه على الإطلاق— ما يدفعني إلى أن أمسك بسطل ماء وأندفع صوب منزله المشتعل؛ بل إنّه شعورٌ أوسع بكثير، مع أنّه أكثر غموضاً: غريزة التضامن الإنساني. ينطبق الأمر ذاته على الحيوانات. ليس الحب ولا حتى التعاطف (بالمعنى الحرفي للكلمة)، ما يدفع قطيعاً من المجترّات أو من الجياد إلى تشكيل حلقة لصدّ هجوم ذئاب؛ وليس الحب ما يدفع الذئاب إلى تشكيل مجموعة بهدف الصيد؛ وليس الحب ما يدفع صغار الهررة أو الحملان إلى اللعب معاً، أو قُرابة عشرة أنواع من صغار الطيور إلى العيش معاً في الخريف؛ وليس الحب ولا التعاطف الشخصي ما يدفع آلاف الغزلان المنتشرة على أراضٍ بمساحة فرنسا إلى تشكيل مجموعات من القطعان التي تسير كلها باتجاه المكان ذاته بهدف عبور نهر في نقطة محددة. إنه شعور أوسع بكثير من الحب أو التعاطف الشخصي، إنها غريزة نمت تدريجياً بين الحيوانات والبشر من خلال تطوّر بطيء جداً، والتي علّمت البشر والحيوانات القوة التي قد يجدونها في ممارسة التعاون والدعم المتبادل، إضافة إلى الملذّات التي قد تمنحهم إياها الحياة الاجتماعية».        

ترجمة ألين جبارة

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر