ينسب بعض نقاد الأنواع الأدبية إلى أعمالٍ تدخل في باب نوعٍ منها إشهاد القارئ على ما يقرأ، قصّةً أو روايةً أو شعراً، وكأنّه يحضر ما يتناوله القصّ أو ترويه الرواية أو يؤدّيه (يغنّيه) الشعر. فمَدَحت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908- 1986) فيوليت ليدوك، كاتبة سيرة غرامية ذاتية وروائية سمّتها بـاللقيطة (1964)، وقالت: إن القارئ يخال نفسه رائياً من فتحة الباب مسرح الحادثة المروية وشخوصها. والسيرة، ذاتيةً أو غير ذاتية، بابٌ يدعو إلى مثل الفضول وتوحيد القارئ بـ«بطل» السيرة (أو تماهيه) هذَيْن.
وقد تحمل السيرة الذاتية السياسية، و«النضالية» منها و«اليسارية» على وجه التخصيص، على الالتواء والتخفّي فوق ما تُدعى السيرة الغرامية، على شاكلة سيرة جياكومو كازانوفا (1725- 1798)، إليهما. فالمغامر في رواية أخبار عشقه، على مثال البندقي الإيطالي، أو مثال فيوليت ليدوك المرأة والقريبة منّا زمناً، قد لا يلزم نفسه وروايته بضوابط ونواهٍ كالتي تقيّد المتشاغل بالشأن العام (رِسْ بوبليكا أو «شيء الجمهور»، وهو الجمهورية)، والحريص والمقيم على حرصه على بعض «الدويّ» والصيت الشبيهَيْن بتداول أنمُل المرء سمعه، على قول المتنبي في «رأينا العام» المعاصر.
المُعاصَرة
«المناضل اليساري» المعاصر- في مجتمعاتنا العربية «الوجه واليد واللسان»، على بعض رغمها، والإسلامية على الأغلب، وعلى معانٍ مختلفة ومتفاوتة- بينه وبين الشأن العام، الكثير الوجوه والمعايير، علاقات مضطربة. فإلى وقت قريب تصوّر «المناضل اليساري»، واللفظتان متعالقتان وتستدعي واحدتُهما الأخرى، في صورة الغريب الدخيل، أو في صورة قناع محلي وموارب يستعيره وجه أجنبي (و«المرأة الأجنبية»، في تغريبة بني هلال الملحمية والشعبية هي غير الزوجة بنت العمّ).
وجرى صحافيون وأخباريون، «مؤرّخون» مجازاً، مثل محمد حسنين هيكل، داعية جمال عبد الناصر المصري والعربي الأفريقي الرسمي، في وقت أوّل، على اختصار هوية الشيوعيين المصريين المعاصرين في «اليهودية»، الدينية والسياسية القومية والاستعمارية والأسطورية «الشعبية» جميعاً. فكان يخلط مياه هذه السواقي والروافد ليسوّي منها سمّاً وقبحاً وتلبيساً ودخالة مميتة. وفي وقتٍ تالٍ، أواخر العقد السابع من القرن الماضي، لوّح «اليسار الحقيقي»- ذاك الذي ندّد به هيكل قبل أن يقترح له عند عبد الناصر مناصب صحافية ويسمّي منه أنور السادات (1918- 1981) وزيراً- بضرر «اليسار المغامر».
وهذا استحق الصفة عشية حمل سلفه «الحقيقي» السلاح، وانخراطه في صفوف فصائل «التحرير» الفلسطينية، وشكّل معها «قوّات مشتركة» شنّت حروباً متزامنة على دول الأردن وسوريا ولاحقاً لبنان، يشدّ أزرَها من ورائها أعلام «الثورة» العربية الكبرى حقاً هذه المرّة، صدّام حسين وهواري بومدين (الجزائري)، وبعض الأجهزة المصرية الناصرية، وبعض «شيوخ» الخليج، على ما كانوا يُسمّون قبل المكافآت على الإبداع الخالص والقطيعة مع الثابت، وصلاح جديد السوري وخصم حافظ الأسد العائلي والمذهبي والسلكي...
ولا يشكّ اليوم واحد من الطاقم الحرسي الولائي (نسبة إلى الولي الفقيه) الإيراني في تلقّي الواحد وسبعين ولداً قتيلاً، من قتلى حراك «المرأة.. الحياة.. الحرية»، اتصالاً هاتفياً من طاقم جو بايدن في البيت الأبيض يدعوه إلى الهتاف «الموت للديكتاتور»، بدل الصرخة الحوثية العتيدة «الموت لأمريكا» وردّاً خائباً عليها، ويُشفِع دعوتَه الخبيثة بشيك «أوف شور» يُقبَض في مكتبٍ من مكاتب التحويل المنتشرة عمداً واستباقاً.
الإخراج
ويعود اليوم إلى هذا الزمن، ومن داخله (على المعنى المكاني)، «مناضل يساري» لبناني هو وديع حمدان (أوراق من دفتر العمر سيرة مناضل يساري، دار سائر المشرق، ط. أولى 2023، جديدة المتن، لبنان)، أو محمد، باسمه في سجل القيد أو «تذكرة النفوس». وفي الأثناء، أي منذ تركه في 1990 المنظمة اليسارية، الشيوعية، التي نشط فيها وديع (لقبه الحزبي) أو ناضل منذ أواخر العقد السابع، وهو لم يبلغ العشرين من سنّه، عمل في إدارة تجارية وتعاونية، واشترك في إصدار نشرة سياسية فكرية غير دورية، وأسهم في عمل جمعيات سياحية وبيئية تتولى التعريف بـ«طبيعة» البلاد والجهات اللبنانية، والمشي والدلالة (مع دليل أو أدلاء) فيها.
ولا ينسى «المناضل» تصدير صفته، المفترضة سابقة ومطويّة، على غلاف كتابه. ويجمع وسم الكتاب في شقّيه، الأوّل والثانوي، بين معنى تقليدي وأهلي، يحمل السيرة على شجرة تكسوها الأوراق، وتتساقط منها بعد اخضرار وإيناع، وتعود الذاكرة المؤرِّخة فتنتزعها ورقةً بعد ورقة، وجملةَ وقائع فريدة بعد جملة، وتوحّد متفرقها الذهني والمفتعل في حرارة «عمر» باطنة ومتصلة- وبين معنى اصطلاحي، «مناضل يساري» ينتمي إلى دائرة معانٍ متعارفة، لا تختلف جماعة من الناس في فهمها ولا في تأويلها.
وتزيّن الغلاف الأول، الخارجي والظاهر للعيان، صورة شمسية تمثّل ما ينبغي أن يكون عليه، قسماتٍ ودلالاتٍ أو معانيَ، «المناضلُ» أو مثاله في المخيلة وفي «القلب» و«العيون»، على قول هيفاء وهبي. فالوجه النحيل، العظميّ، وغضونه العميقة، والشعر الأشيب والحفيف، والعينان اليقظتان والمحدّقتان والحالمتان معاً وراء النظارتين المتينتين، والشفتان الرقيقتان- تنمّ هذه كلها بالنسك، والإقامة الراسخة على عهد، والانصراف من غير تردّد إلى مهمّة.
وهي مرآة عزيمة لا تلين، و«تسقي الفولاذ»، بحسب عبارة سوفياتية لا شك في أن ستالين، ولقبه الحزبي والنضالي الذي يعني صانع الفولاذ، ملهمها. ستالين، ومعه أو إليه مكسيم غوركي، ومنحوتته المشهورة التي تلخص معاً وفي آن آلام «السيّد» العامل الكادح، وجبروت صانع الثورة على الظلم والاستغلال.
ويزدان الغلاف الرابع بصورة أخرى هي مرآة وجه صاحب السيرة الآخر، أو الثاني في إحصاء يقتصر على اثنين. وعلى خلاف الأولى، العابسة والجادة، يطلّ الكاتب في الثانية، ضاحكاً، منفرج الفم عن أسنان بيض وربّما نهمة، ويعتمر قبّعةً كشفيةً تتقدّمها باقة أزهار برية وبهيجة الألوان، ويلتفح عنقُه بشالٍ أبيض صيفيّ مستقبلٍ نورَ شمسٍ باهراً ومتلألئاً من دون تحفّظ. فيحسب الناظر إلى الصورة هذه أنّ صاحبها محلّ احتفال وتكريم، وهو يردّ التحية على المحتفلين، أو أنه شريك في كرنفال قد لا يكون راقصاً، وقد لا يشترط التقنّع الكامل على أهله.
وصاحب السيرة، والصورتين الشمسيتين على طرفي السيرة النقيضين، واحد. ويزعم كاتب السيرة أن انتقاله من النضال اليساري إلى «النضال» البيئي والطبيعي، أو هو قد يزعم أن انتقاله هذا ليس إلا جملة واحدة من شطرين. ونضاله البيئي «أخرجه» من حزبه السياسي الناكص، على ما يروي في صفحاته، والضيق الأفق إلى «رحاب البيئة الواسعة وعالم الإنسان والطبيعة»، على قوله على غلافه الرابع، وفوق صورته «البيئية».
ولكنّ القارئ- وهو قارئ يوقّع باسمه عجالته- لا يخلص من قراءته إلى ما يريد «إخراج» الكتاب (على المعنى السينمائي) الإيحاء به والحمل عليه. فالـ439 صفحة من أوراق من دفتر العمر أقرب إلى نصب مرفوع على «نيّة» الكاتب، على ما يقول الناس في التماثيل على مفترقات الطرق، منه إلى سيرة «المناضل اليساري»، على المعنى الحديث أو التاريخي والاجتماعي الذي تضمره الجملة وكلماتها.
فالسيرة هي غير الترجمة، أو النبذة، التي تدرج موضوعها، أو صاحبها، في باب بعينه: المناضلين العماليين، المحدّثين، الأطباء، أسر جبل الكرمل... وهي غير «الحياة»، على معنى «حياة القدّيسين»، وغير «القصّة»، على معنى «قصص الأنبياء» أو «الأولياء». وهذه قريبة ممّا يسمّيه الفرنسيون، وربما أوروبيون آخرون، «قبراً» (كتابياً) يُسجّى فيه الراحل، ومعه، على شاكلة قدامى المصريين، ثروته المعنوية من الفضائل.
وعلى هذا، تقتضي السيرة صنفاً من الكتابة يجلو الحوادث في اتصالها وتقطّعها، في بعثرتها ووحدتها، في نازعها إلى الدلالة المباشرة وفي نازعها الآخر إلى التورية... وهذه الكتابة قريبة من الرواية، ولا تستقلّ عن «إشكال» ما تروي، ولا عن تنازعه وفرديته (أو فردياته) ومعارضته مجتمعه، وزمنه الانحداري، على قول المجري جورج لوكاش. وهذا دور يدور (أو حلقة مفرغة): يُفترض في كتابة السيرة الحديثة أن تتناول موضوعها، أي مَن تروي سيرته، على نحو يجمع الإتصال والتقطع، والبعثرة والوحدة... ومن وجه آخر، لا تستقيم هكذا كتابة إذا افتقر ما ومن تكتبه إلى الإشكال والتنازع والفردية والزمن المنحدر.
المناضل
ولا يقيس تناول أوراق من دفتر العمر السيرة على هذه التعريفات ليخلص إلى مطابقتها التعريفات أو مخالفتها إياها. فما أوحى بالمقارنة هو الكلمات التي يستعيرها الكاتب، «المناضل اليساري»، من مصطلح يخاله، على ما يبدو لي، معروفاً ومفهوماً ومُجمَعاً عليه من غير شك ولا سؤال.
فالمناضل مناضل على مثال «بلشفيّ» مُضمَر، ستالين، وقبله لينين، ثوري محترف، وجزء عضوي من آلة حزبية «مركزية- ديموقراطية»، تقوم مقام رأس حربة الطبقة العاملة المتحرّكة والفاحصة عن مواضع الضعف في درع العدوّ وترسه لتنفذ (الرأس) منها إلى قلبه وتصرعه. وغوركي، صاحب الأمّ، والقيعان، هو روائي الشقاء والظلم الروسيين اللذين ولّدا المناضل الاشتراكي- الديموقراطي فالشيوعي.
وفي وقت متأخر، هو سنة 1990، على ما مرّ، وغداة نحو 23 عاماً، قضى معظمها في خضم الحروب الداخلية والهجينة («الملبننة»)، يستفيق «وديع»، الحزبي، مرادف المناضل والمتفرّغ، أي الذي يتقاضى راتباً دورياً لقاء احترافه العمل السياسي الثوري، وتسويغه الخطابي آراء منظمته وألسنتها وقادتها، وأسفاره (في حال وديع حمدان «مسؤول العلاقات الخارجية» في حزبه، على ما يكرّر عشرات المرّات)، (يستفيق) على تحفظه الشديد عن «خطّ» حزبه، وعلى وصم حزبه له بالعداء والعمالة، وأخيراً على انقلاب جماعة المناضلين اليساريين، رفاقه وأقرانه، إلى عصبية الزعيم الفذّ وجسده الثاني الصوفي والسلالي الحي، أو إلى موظفين يرتزقون من محازبتهم، وينتظرون عرضاً كريماً لم يلبث أن وافاهم به «حزب» تنقض سياسته ما كانوا عليه.
الطوطم
ويتناول صاحب السيرة هذا الفصل من «عمره» متردّداً ومضطرباً (ص253- 261). وتردّده واضطرابه عَرَضان من أعراض التباس علاقته بحزبه السابق، وسياسة هذا الحزب وبزملائه أو رفاقه الحزبيين. وهو يعمل تردّده بتشاركه «تجربته» مع «عدد كبير من الرفاق، ومعظمهم ترك العمل الحزبي مثلـ(ـه)». ولا يستوقف الكاتب انفراده، دون سائر «رفاقه»، بعد قضائه وإياهم 16 سنة «متفرّغاً» ومحترفاً لقاء راتب وبعض الإمتيازات مثل سيارة ومرافق في تصرّفه، تناول هذه السنين من المشاركة الحميمة في الحياة والآمال والخسائر (فقد الحزبيّ السابق أخوين شقيقين قُتلا في معرض «حزبي»).
وهو يخشى، جرّاء هذا الانفراد الذي لا يسأل الكاتب الفاحص عن معناه، أن تحمل روايته على «الانتقام والتشهير». ويتوقّع التعليل المغرض والمتحامل لفعله، وهو يرقى إلى 32 سنة من قبل، لسبب غريب: تركه التنظيم مع رفاق آخرين بعد «خلاف سياسي وتنظيمي مع القيادة التي يُرمز إليها بالأمين العام للمنظمة، الرفيق محسن إبراهيم». والسبب في غرابة التعليل هو افتراضه أن الغرض والتحامل وسوء الفهم تنشأ عن تشارك الموقف والرأي، وليس عن الانفراد بهما وعن «خصوصيّتهما»، وتنشأ عن صفة الخلاف السياسية والتنظيمية وليس عن صفة أخرى تعود إلى المصلحة والهوى.
ويُعرَّف الخلافُ من طريق الشخص الفرد الذي وقع الخلاف معه وعليه، ويختصر في شخصه السياسة والتنظيم من غير أن يرى الكاتب في الإختصار ما يدعو إلى النظر في مضمون الإثنين، وفي نسبتهما إلى النضال واليسار، ونسبه «عمره» إلى سيرة. ورواية الخلاف عسيرة، على وجه أوّل وبارز من وجوه عسرها، لأنه (الخلاف) يتناول «الأمين العام» العتيد. فهو ليس «شخصية عادية». ونفي «العادية» عن مناضل يساري مفترض، وإن أقرّ له أصحابه بالبروز، يخالف تقاليد الحركات والتيارات اليسارية والشعبية الحديثة.
ونهض الزعيم والقائد والريّس و«الفوهرر» (الألماني) و«الدوتشه (الإيطالي) والمرشد والأمين العام قبلهم جميعاً- أي المرتبة المتعالية والمفارقة التي تمتع بها من حملوا هذه الألقاب- قرينة صارخة على مصادرة هؤلاء، ومنظماتهم وأجهزتهم، الجمهورَ أو الشعب، وطبقاته الحية والفاعلة، على حريته وإرادته وبصيرته، أي على قيامه بنفسه وولايته عليها من غير وصاية. وهذه، أي الحرية والإرادة... هي ركن السياسات التنويرية، واليسارية فرع منها. ولا معنى للنضال، ولا للحزب السياسي «الشعبي»، وهو غير حزب الوجهاء العصبي وغير الحزب الإنقلابي العصبوي، من دون هذا الركن.
ولا يمدح محمد حمدان، وهو كفّ عن التلقّب الحزبي بوديع منذ ثلاثة عقود، صاحب منظمته السابقة بطاقاته النضالية، التنظيمية والاستشرافية السياسية، ولا بشجاعته على المكاشفة والصراحة المعاصرتين للحوادث، ولا بقدرته على الجمع والتأليف (و«المسؤولية»، يضيف بعضهم). فعلى أي معنى هو غير عادي، إذن؟ «هو شخصية تاريخية في أدواره المختلفة التي لعبها في العمل القومي العربي والفلسطيني، امتدّت من اليمن إلى الجزائر». فعلى هذا القدر (الضئيل) من التخصيص والتعيين، معنى «تاريخي» هو قديم زمناً. وقد يضاف الإتساع إلى القدم، «من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر».
وإذا خصّص الكاتب قصده وفصّله، قال في صاحبه إنه «صاحب العلاقة المميّزة التي ربطته مع كل من الرئيس جمال عبد الناصر، وياسر عرفات، وكذلك الأمر مع الشهيد كمال جنبلاط، وأخيراً دوره الاستثنائي في الحركة الوطنية اللبنانية التي كان زنبركها بلا منازع». أي هو من صحابة أولياء، والأدق القول «أولي أمر»، على معنى خمينيّ شائع ومشهود النتائج والثمار. وعدوى الولاية، أو اعتقاد عدواها قد لا يكون، لا على وجه الدقّة ولا على التقريب، سمة من سمات رأي اليساريّين في الأمور والأحوال والناس.
والصحبة مرتبة. وتعليل المرتبة هو السبق، أو امتلاك السابقة في زمن المحنة والقلة. والانتصار للوليّ في حال الإبتداء، وقبل النصر والفتح ودخول الناس في «الدين» أفواجاً هو من علامات الاصطفاء. وهذه المعاني المغرقة في إيحاءاتها وأصدائها وفتنتها الدينية والغيبية، وخلطها هذه بدعاوى سياسية عريضة، لا تحرج «المناضل اليساري» ولا تنبّهه إلى اضطراب «سيرته» ولا إلى إشكالها. فيقع في كتابة ترجمته وخبره، ويفسر السيرة على المعنى التقليدي والتراثي الذي أراد خلافه أو غيره. فإذا بها سرد لفضائل الأولياء وإحصاء لمثالب الملعونين.
التجربة
فبعد تردّد، يعقد الكاتب العزم على «مراجعة» ما يسمّيه «تجربة»، على سبيل التفخيم، من وجه أوّل، والتحديث أو الانتساب إلى الحداثة اليسارية وتناولها الناس والحوادث من باب الصيرورة والفعل، من وجه آخر، ويختصر مشكلة التجربة أو «التناقض الرئيسي»، بحسب رطانة زمن سبق زمن «وديع»، في استعصاء أو استحالة «بناء حزب طليعي»، في «قيادة جماعية مشتركة»، في ظلّ «شخص ذي ثقل كبير، سياسي وتاريخي مثل محسن إبراهيم».
ورغم الاستحالة التي يوشك الكاتب على وصفها بـ«العلميّة»- فهو يقرّر أنّ ثمة «طريقين لبناء الحزب»: إمّا «التكتّل» حول شخصيّة قياديّة وإمّا بناء القيادة المشتركة والجماعيّة، ولا ثالث أو رابع لهما؟- ولا يشكّ في «موضوعيّتها»، يعتب على جماعته (أي «جماعة محسن إبراهيم») ضعف استفادتها «من ثقل ودور محسن إبراهيم في هذا البناء، كما هو مفترض». وهو يفترض ما قرّر لتوّه انتفاء إمكانه وجوازه، وما لم يتطرّق إلى كيفية «بنائه» على قدمين: قدم الشخص ذي الثقل الكبير وقدم القيادة الجماعية والمشتركة، من غير أن تنفي القدم الأخرى.
ولكن ما يغفل عنه صاحبنا غفلة تامة، وأراه بيت القصيد، هو وصف أو صفة الحزب اليساري والمناضل (مع الإعفاء من الثورية) المولود من الشخص ذي الثقل، والفرق بينه وبين الحزب اليساري والمناضل الآخر، المولود على وجه التمنّي من القيادة المشتركة والجماعية.
أيكون الحزب الأوّل، وهو الحزب الفعلي الذي يزعم الكاتب أنّه تركه على خلاف سياسي وتنظيمي، حزب مناضلين- يحتكمون في أحكامهم وأفعالهم إلى اختباراتهم في صفوف الجماعات التي يشاركونها مطاليبها وربما تطلعاتها العامة إلى المساواة والاعتراف بها-، ويساريّين يوقنون بأنّ صنع العلاقات الاجتماعية والإنسانية الكريمة والعادلة لا يحتاج إلى أبطال أو أولياء، ولا إلى انتظار الخلاص من الغيب وإشراقاته و«تلويحاته العرشية» (السهروردي القتيل)؟ أم يكون الحزب المفترض «قبيلة» طوطم أوّل، بَني فلان أو جماعة فلان، ولحمتها عصبية تنسب الأعضاء إلى ذي الثقل والدور المتقمّص الحزب؟
الكاتب لا يطرح السؤال، ولا يجيب عنه، بديهة. وفي روايته رحلاته وأسفاره تستخفّه السياحة ومحطاتها، وأهل هذه المحطات. ومن ينزل بهم من «مناضلين يساريين»، وأنصار حزبه أو منظمته، لا يعلم القارئ منهم وعنهم إلا بعض الأسماء والأخبار الطريفة، وأقلّ القليل من المناقشات. ويمرّ صاحب السيرة سريعاً على مناقشة تناولت، في إحدى المدن الفرنسية وفي أوائل الحروب اللبنانية، الاختيار بين الاندماج في العمل الفلسطيني المسلّح وبناء عمل سياسي لبناني، وطني وجامع، يتولّى مساندة القضية الفلسطينية، وهو على هذه الحال من التماسك (ص105).
وعلى مثال «سِيَر» يساريّة أخرى، على شاكلة سيرة جورج البطل الحوارية والطويلة (آخر الشيوعيين، دار الفارابي، 2019، بيروت)، تقتصر الأخبار على المواقف والآراء والأحكام السياسية العامة، وتقصِّر دون وصف العمل اليومي الرتيب ربما واختباراته وأطواره، من مراكمة وتصحيح ونكوص وغفلة، أو مِن تعرّف على صنف جديد من الناس والمسائل والتوقعات.
فإذا انتبه المناضل إلى انقلاب حزبه من الانخراط في «العمل الشعبي المتنوع (...) النقابي المهني، والصناعي الزراعي، (...) والطلابي، والعمل في أحياء إلخ»، وإنشاء «ركيزة لوحدة المصالح الاجتماعية في لبنان (...) كانت تخترق كل الطوائف وتوحد فيما بينها» (ص255)- إلى «عمل عسكري وإدارة علاقات سياسية ترتبط بعمل الحركة الوطنية اللبنانية، بالصلة مع المقاومة الفلسطينية (...) لا تحتاج حكماً إلى عمل جماعي»، (إذا انتبه) إلى هذا الانقلاب لم يلاحظ أنّ ما فاته في الصفحات السابقة (وفي الصفحات اللاحقة) هو وصف هذا الانقلاب، وتحرّي ملابساته وتظاهراته وأعراضه، وتعليل عوامله.
والوصف والتحرّي والتعليل لكانت تسوغ الكلام على سيرة، وعلى رواية سيرة تقتفي آثار تكوين فرد متنازع في مجتمع (وليس في جماعة أو «قبيلة» تتحدر من جدّ أعلى) «يلد» نفسه ويجدّدها في ثنايا تاريخ دنيوي وزمني، «يساري».
الحزب والسلالة
ويتوّج الفصلُ الأخير من تاريخ الحزب، في رواية صاحب السيرة، عصبيةَ الحزب القبلية. فبين البنود التي تناولتها مناقشة المسائل التنظيمية، «الموضوع المالي»، أي مصادر التمويل وموازين التوزيع. وجواباً عن السؤال قيل («جرى اعتبار طرح الموضوع») إنه «يشكّل إساءةً للأمين العام، الذي قال إنه لا يحق لأحد مناقشته بالموضوع المالي، طالما أنه هو من يأتي بالمال! وهذه النظرة للموضوع المالي، هي التي تشرّع جعل أملاك التنظيم أملاكاً خاصة وتورّث للأبناء! كما حصل لاحقاً بعد وفاة الرفيق محسن إبراهيم.» (علامات الوقف من كاتب السيرة).
وعلى هذا، يَمْثل الحزب السياسي (الأهلي)، بالغاً ما بلغت يساريته ونضاليته، وبلغ استغراقه في القضية الوطنية والقومية الوجودية والأممية، مرآةً لبنية مجتمعه الأوسع والأعرض. فالحزب أو التنظيم يضوي إليه أولياء وآباء ومصطفين، و«بني» هؤلاء الأولياء والآباء. وتجمع المرتبتين أو الطبقتين، وأفراد الإثنتين، عصبيةٌ توحّد «الناس» (أي ملأ القبيلة، على مثال «ربّ الناس»، وليس «ربّ القبائل» على ما جاء في ترجمة كتاب جاكلين الشابي إلى العربية) على هوية سلالية، نسبية دموية وأسطورية «أصولية». فتتوسّع الأحزاب العصبية على مثال سلالي، إمبراطوري، هو الإستتباع، الإلحاق. والأمثلة السياسية العربية على هذا لا تحصى.
ولا تعف الرابطة العصبية السلالية عن الأفكار والأحكام السياسية، فضلاً عن استحواذها على العلاقات الاجتماعية، والعلاقات التنظيمية والحزبية فرع منها. فـ«الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية»، على ما يسمّي وديع حمدان انقلاب حزبه من مثال عمليّ وسياسيّ إلى مثال آخر- وعلى النحو الذي حصل عليه: فجأةً، وتامّاً، وغيَّر رأساً على عقب أحكام الحزبيين وأفعالهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض وكلهم بالخارج...- هذا الالتحاق لا دخل فيه للحلف بين كيانين سياسيّين وحزبيّين قاما على تقسيم عمل لا ينفي تكامله استقلال الإثنين.
ويشبه الالتحاق هذا الإلحاق العائلي أو القبلي بالنسب، على نحو عرفته القبائل العربية في أوقات أعقبت انبعاث القبيلة بعد انهيار ودثار تحت لواء جزء من قبيلة أخرى داثرة تولى قيادتها رجل استثنائي. ويشبه كذلك التبنّي. ويستتبع ذلك سماتٍ مثلَ اعتقاد الولاية، وتعريف الهوية من طريق الطوطم، وتوقّع العدوى السحرية…
ولا شكّ في أنّ انتهاء الشكل السياسي المحدث، وهو لا ينفك من مضامين اجتماعية وتاريخية بعينها، إلى بنية مختلطة، تمزج مضامين مختلفة المعاني وغير متجانسة، لا يؤدّي إلى بعث أشكال ومضامين سابقة وعلى الحال التي كانت عليها. فما يبقى فاعلاً هو «العوامل» (الجر أو الإضافة أو الابتداء أو الخبر... في اللغة)، وهي تعمل على وجه تاريخي، أي يستقي مادته من الأحوال المستجدة وغير الثابتة. فالكلام على عصبية حزبية ينبغي أن يفضي إلى تحرّي تغييرَيْن: التغيير الذي أصاب العصبيّة والتغيير الذي طرأ على الحزب.