مراجعة اليسار
جمال القرى

مسار التجربة الحزبيّة اليساريّة

قراءةٌ في «أوراق من دفتر العمر»

13 أيار 2023

هل يمكن تصنيف كتاب وديع حمدان الصادر عن دار سائر المشرق العام 2023 بالسيرة الشخصية في حقبة تاريخية محدّدة من تاريخ لبنان يتداخل فيها الخاص بالعام؟ للمزيد عن كتاب وديع حمدان، يمكن قراءة مراجعة وضاح شرارة وردّ الكاتب عليه. أم هو جردة حساب لتلك الحقبة مع ما اعتراها من تغييرات بنيوية– اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وعمرانية وبيئية؟ أم هو للإضاءة على مشاكل اليسار اللبناني عموماَ، الذي انتمى الكاتب إلى إحدى منظماته الشيوعية– الماركسية التي تعددّت واختلفت في ما بينها لارتباطها بتعدّد واختلاف أنماط فهم وتطبيق المنهج الماركسي، والآتية من حركة القوميين العرب؟ أم هو للاستنتاج أن بنيتنا الاجتماعية والسياسية غير جاهزة بعد لإطلاق أحزاب سياسية تتمتّع بالتراتبيات الحزبية الديموقراطية التي تقوم بدورها وواجبها في نسج البرامج الواضحة لتحقيق الأهداف المنشودة بتغيير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي تخضع في الوقت نفسه لعملية المحاسبة والمساءلة داخل قيادتها ولدى أعضائها، خصوصاً أن المشاكل الحزبية التي تحدث عنها الكاتب تكاد تكون شبيهة إلى حدٍ كبير عما اعترى الداخل في الحزب الشيوعي؟ أم هي خواطر جُمعت في كتاب لتدوين ذكريات كثيرة تتقاطع بنسبة كبيرة مع حيوات فئات عديدة من اللبنانيين عاشوا ظروفاً مماثلة من الانتقال المناطقي والتهجير والفقر والتحزّب وصولاً إلى المشاركة في الحرب الأهلية؟ أم هي دعوة لوعي وطني جديد ينبذ الحروب الأهلية ويعمل على تجنّبها ويعمل في الوقت نفسه على تقديم بديل اجتماعي وسياسي مولِّد للأزمات والفقر والاستغلال والتبعية والحروب؟

وهنا لا بد من التساؤل عن جدوى قراءة هذا النمط من الكتابة، وعن مدى الاستفادة من تلك التجربة الطويلة والغنية على مدى أكثر من ستين عاماً، التي دوّنها الكاتب بكثيرٍ من النقد لمسار التجربة الحزبية اليسارية اللبنانية، ملقياً الضوء على أهم ما اعتراها من أخطاء بنيوية وتنظيمية جعلتها تفقد مبرّر وجودها بعدما أخفقت في تحقيق أهدافها ووصلت إلى حائط مسدود لا تنفع عنده المكابرة أو جلد الذات.

فمن خلال تفرّغه الحزبي وترؤّسه لتنظيم الخارج، يعطي وديع حمدان صورة عن نمط العمل الحزبي، وعن العلاقة بالقائد، الذي هو المركز الأعلى في التنظيم الذي لا يخضع للتساؤل أو المحاسبة كنوع من تقديسٍ لهذه المرتبة الرفيعة. وهنا، لا بد من التعريج على مسار اتخاذ القرارات السياسية الكبيرة التي كانت تخضع لرؤية هذا القائد، كان أكثرها تدميراً للأحزاب اليسارية اللبنانية بشقّيها «المنظمة» و«الحزب»، هو قرار الدخول طرفاً في الحرب الأهلية اللبنانية ضد طرف آخر بالاعتماد على البندقية الفلسطينية التي كانت تتجاذبها المواقف الإقليمية والدولية. 

لقد تراجعت الحركة اليسارية في لبنان بحسب ما يُستشّف من الكتاب، بسبب عدم إجراء دراسة نقدية جدية وشاملة لتاريخ نشاطها، خاصّةً في مرحلة الحرب الأهلية. على أنّ النقد الذي قدّمه محسن ابراهيم في ذكرى أربعين جورج حاوي قد تأخر لأكثر من خمسة عشر عاماً، كما يقول حمدان. 

فبعد استقالته من العمل الحزبي في المنظمة لأسبابٍ تنظيمية وسياسية فنّدها في الكتاب، لم يتوقف حمدان عن ممارسة نشاطاته الفكرية والسياسية، بل ساهم بتطوير العمل التعاوني وبتأسيس حركة سياسية كان من المفترض بها أن تكون يسارية ديمقراطية. لكنها سرعان ما ارتكبت أخطاء وضعتها في مصاف قوى الأمر الواقع التي هي بطبيعتها وتركيبتها قوى طائفية لم تفلح في رسم خريطة طريق ليسار جديد في البلاد. لكنه لم يتوقف، واتّجه نحو العمل الثقافي والفكري، وأنشأ مع بعض الشخصيات الفكرية، مثل الياس خوري وزياد ماجد، مجلة  «الأفق» التي كانت تُطبع وتُوزّع مجاناً على مدى ثلاث سنوات حتى استُنزفت كل طاقاتها، وكان لي شرف المساهمة والكتابة في هذه النشرة. واليوم يتوّجه حمدان بعد كل تجربته الطويلة إلى الطبيعة والنشاطات البيئية يستكمل من خلالهما شغفه وحبّه للحياة. 

وفي الختام، أسمح لنفسي بالقول إنّ من أهمّ الأسباب الثقافية لشرذمة اليسار وضياعه وخسارته لمحازبيه ومناصريه الذين إما اعتكفوا، وإما التحقوا بقوى الأمر الواقع، وإما طُردوا واستقالوا ليؤسّسوا حركات يسارية عديدة كالت لبعضها التهم والعداء واعتبرت كل واحدة منها نفسها الفرقة اليسارية الناجية، هو أنّه بقي يساراً نخبوياً إيديولوجياً، يُفرض من أعلى، بالإضافة إلى أن تركيبته السياسية والفكرية والسلوكية استلهمت بنيتها من نمطَيْن ثقافيَّيْن: 

  • الأول، من الثقافة المجتمعية القائمة على سلطة أبوية، قبلية عشائرية، تنهل من التراث الفكري الديني والفكري الجامد، دون الوجه الاجتهادي والتنويري لكليهما، مما حوّلها إلى قلاع أصولية عصيّة على أي تجديد وتغيير وتطوير.
  • أمّا النمط الثاني، فهو ناتج من سلطة سياسية عربية استبدادية حوّلت تركيبة اليسار إلى أصولية ديكتاتورية لا تختلف عن الأصوليات الفاشية والدينية ولتُصبح بمكانٍ ما، صورة منقّحة عنها.

إن وجود يسار جديد في لبنان يحمل في ظل التجاذبات والاصطفافات المذهبية والتدخّل الإقليمي والدولي العلني والفاضح في كل شؤونه الداخلية، مشروعاً سياسياً وطنياً بشعار مركزي يسعى إلى تغيير النظام السياسي بالوسائل الديموقراطية من أجل قيام دولة مدنية، هو حاجة ملحّة. ولكن هناك صعوبة بتحقيقه ما لم تجرِ عملية نقد للتجربة اليسارية السابقة، وورشة إصلاح ثقافي، تخرجه من الجمود العقائدي، وتجعله يساراً تحرّرياً ديموقراطياً نابعاً من حياة ومشاكل الحياة اليومية للناس ولا يقطع مع الحرية، ومتّصلاً بالتطورات العالمية الفكرية والمعرفية الجديدة. 

علّ كتاب وديع حمدان يشكّل بادرة حثّ جديدة للنقد، ولإفراغ ما يعتمل النفوس من أسى وندم لما فات،  ومبادرة لنشوء حركة يسارية معاصرة لا تقطع مع المُختلف، بل تفتح الباب أمام الحوار من أجل بناء مجتمع جديد بعيد عمّا هو قائم. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان