تعليق اليسار
جان قصير

بحثاً عن نظير عربيّ ليسارٍ عالميّ صاعد

11 تموز 2024

اليسار في «الشمال العالمي»

كنّا كُثراً، يوم الأحد الفائت، حين شعرنا بفرحة لهزيمة اليمين المتطرّف في فرنسا. فرحة يشعر بها كلّ مَن يدرك كم هي نادرة تلك اللحظات التي تعيد لنا اليقين بـ«تفائل الإرادة». فللحركات الاجتماعية قدرة ساحرة على العدوى وبثّ الأمل عبر القارات.

لقد نجح جيل يساري شاب في فرنسا في صناعة المستحيل.

سبعة أيام كانت كفيلة باستنهاض ماكينة انتخابيّة شبابيّة قلبت الموازين، ولجمت تمدّد اليمين المتطرّف، وأكدّت أن هناك خيارًا آخر للخروج من أزمة النظام، خيار يبدأ بالتصدّي للفاشية. ربّما كان من المبكر الحديث عن بروز كتلة تاريخية في فرنسا، أو باقي «الشمال العالمي»، تتبنّى مقاربة يساريّة لاستبدال النظام القائم. لكن هناك واقع ديمغرافي لا يمكن تجاهله: 48٪ من الناخبين دون سنّ الـ25 صوّتوا لـ«الجبهة الشعبيّة» في فرنسا. أرقام يجب قراءتها بحذر. فاليمين المتطرف رفع أيضًا نسبة تأييده من أصوات الفئة نفسها، ما يشير إلى تباين حادّ في مقاربة الشباب للخروج من أزمة النظام. وهذا الواقع ليس مقطوعًا عن سياق سياسي. فخلال العقد الماضي، برز في فرنسا و«الشمال العالمي» جيل جديد من اليساريّين والبيئيّين والنسويات و«الأنتيفا» الذين بدأوا برسم أفق سياسة مختلفة. ومنذ 7 أكتوبر، اتّضح أنّ وعي هذا الجيل اليساري ليس محصوراً بشؤون بلاده الداخلية، كما أظهرت مشاركة الشباب الكثيفة في المظاهرات الداعمة لفلسطين.

عام 2011، ألهمت الثورات العربيّة جيلاً من الناشطين في الغرب، وساهمت بخلق ديناميكيّة تمرّد حول العالم، من حركة «أوكوباي» في الولايات المتحدة إلى «الانديغنادوس» في إسبانيا. وقد لعب بعض من شارك في مغامرة الثورات العربيّة دورًا مهمًا في انتصار الأحد الفائت. فجيل الناشطين العرب، المنفيين جراء الثورات المضادة من مصر ولبنان وتونس وسوريا وغيرها، لعب دورًا هامّاً في سياسة الدول الغربية، من خلال فرض أجندته داخل أحزاب يساريّة تاريخيّة ومؤسسات تعليميّة عريقة. تسلّح هؤلاء الشباب بمهارتهم في إتقان لغة وسائل التواصل الاجتماعي وحنكتهم السياسيّة التي انتزعوها في أصعب الظروف، فنجحوا في كسر الحصار الإعلامي على فلسطين عبر تعميم رواياتهم في الخطاب العام. 

بكلام آخر، صعود اليسار الشاب في الغرب هو أيضًا صعود اليسار العربي في الغرب.

لكنّ لهذا الدور سياقًا مختلفًا، هو قمع حركات التحرّر في العالم العربي، ما أدّى إلى غياب اليسار في بلادنا. فنشاهد هذا الانتصار عن بعد، ونشعر أكثر من أي وقت مضى بضرورة يسار عربي، يواكب تحوّلات كهذه. 


تضامن ما دون السياسة

قضت الثورات المضادّة والحروب والأزمات الاقتصادية في المشرق واليمن وشمال أفريقيا على البنى التحتيّة السياسيّة التقدّميّة. وما بقي من اليسار في بلادنا هو بعض القوى المرتهنة للمحاور المهيمنة وبعض المجموعات التي تكافح للبقاء. وهذا ما يفرض علينا التساؤل: ما هي تبعات غياب نظير سياسي عربي لمواكبة الحالة الشبابيّة اليساريّة في العالم؟

يشكّل غياب يسار منظّم في العالم العربي فرصةً ضائعةً لتوظيف تضامن الشباب اليساري مع فلسطين وقضايا شعوب المنطقة. فمجتمعاتنا العربيّة بأمسّ الحاجة إلى تغيير جذريّ في سياسات الحكومات الغربيّة الداعمة للاحتلال والمطبّعة مع الأنظمة، ممّا يتطلّب شراكات مع حلفاء في عواصم القرار. وتتراوح العناوين التي تفرض علينا البحث عن حلفاء مِن وقف تسليح إسرائيل ودعمِ الإبادة، إلى الكفّ عن عقد صفقات أمنية وتجاريّة مع النظامَيْن المصري والتونسي، وصولاً إلى التطبيع مع نظام الأسد.

أبعد من ذلك، فغياب المشروع السياسي التقدّمي في بلادنا يعني أنّ التضامن الذي تحظى به شعوبنا لن يصبّ إلّا في مصلحة الطرف الأكثر تنظيماً وهيمنةً. فسواء عن جهل وسذاجة أو بسبب رواسب أيدولوجية لليسار التسلّطي، قد تساهم الأجندات المناهضة للإمبريالية في الغرب في تعزيز القوى الرجعية في منطقتنا في ظلّ غياب البديل اليساري. فمن زاوية بيروت أو حمص، تبدو نظرة بعض اليساريين الشباب في الغرب لحزب الله فكاهيّة، وكأنّه أحد أعمدة التحرر الأنْتِي كولونيالي. ذلك الحزب الذي أحرق وجوّع واحتلّ مدناً في سوريا دعماً لنظامٍ مجرم، وتنفيذاً لأجندة النظام الإيراني التوسعية. من هنا يبدو رفع بعض الأعلام لحزب الله في احتجاجات التضامن مع فلسطين في لندن ونيويورك، ظاهرة مقلقة، قد تشير إلى البحث الساذج عن طرف يدعمه هؤلاء المتضامنون بأي ثمن أو، وهذا أخطر، البحث عن استغلال رخيص لقضيّة الشعب الفلسطيني لتعويم أجندات رجعيّة. فالقوى الرجعية لم تفوّت فرصةً لتستغلّ غياب بديل عنها، كما فعل المرشد علي خامنئي بإلقائه تحية إلى طلاب أمريكا المتضامنين مع فلسطين، وهو نفسه الذي قتل طلاب بلاده المحتجّين داخل حرم جامعاتهم.


عودة اليسار العربي حاجة يساريّة في الغرب أيضاً

لعلّ غياب أحزاب تقدّميّة في العالم العربي لا يُضعِف التقدميين في العالم العربي وحسب، بل أيضًا حلفاءنا اليساريين في الغرب. فالفاشيّة (أو منطق «نحن ضدّ الغريب») تغذّي بعضها حول العالم. يغذّي تصاعدُ الفاشية والإسلاموفوبيا في الغرب النزعات الأصوليّة في بلادنا، وهي نزعات ترفض الغرب برمّته وتعتبر قيم الحداثة وحقوق الإنسان صنيعةً غربيّة خارجة عن «عاداتنا وتقاليدنا». بدوره، فإنّ المزيد من الأصوليّة في بلادنا يؤدي إلى إضعاف الخطاب الأممي والحقوقي الذي يدفع به اليسار في الغرب. فوجود يسار عربي وازن هو الدواء لنظريّة «صراع الحضارات»، لكونه يكسر ثنائية الشمال والجنوب العالمي، إذ يؤكّد أنّ في «الجنوب» أعداء لنا، يقمعون شعوبنا باسم الدين والقوميّة، وفي «الشمال» حلفاء لنا، يواجهون الإمبريالية في عقر دارها.

وهذا شرط لبروز أجندة يسارية مشتركة.  

ففيما باتت الإشكاليات العابرة للحدود أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، تبقى الأجندة السياسيّة للقوى اليساريّة في العالم محكومةً باعتبارات وطنية أو أقليميّة ضيقة. وقد أصبح بروز أجندة يسارية مشتركة على نطاق العالم حاجة ملحّة في زمن طوّرت فيه القوى اليمينية أدبيات سهلة وفعالة لفرض رؤيتها للعالم. من ترامب وبوتين وبولسونارو، مروراً بأبواق اليمين اللبناني، يتكرر الخطاب نفسه عالمياً: التحريض على المهاجرين، شدّ العصب القومي، التصدّي لمؤامرة كونيّة لزعزعة قيم العائلة، شيطنة المثلية والنسويّة، تجاهل الكارثة البيئيّة… استطاع اليمين العالمي في العقد الماضي تحقيق مكاسب كبيرة في معركة الأفكار، لا سيما في تحويل غضب الطبقة العاملة ضدّ أصحاب الثروات الكبرى نحو العمال المهاجرين، وحثّ جيل جديد من الشباب الذكور بالتمسّك بذكوريّة فجّة في مواجهة الخطاب النسوي.
في مواجهة هذا الخطاب الصاعد، ينبغي بلورة أكثر من تضامن خطابي بين القوى اليسارية والبحث عن برامج عمل مشتركة. في مسألة الهجرة مثلاً، لا يمكن مواجهة الموجة العنصريّة بالخطاب الأخلاقي وحده، في بلادنا كما في أوروبا. بات من الأجدى السعي لإظهار الارتباط المباشر بين موجات الهجرة ونظام التعاون الأمني والاقتصادي بين حكومات غربية وأنظمة القمع العربيّة. كذلك في المسألة البيئيّة مثلاً، بات توحيد الأجندة ضروريًا بين يسار ينشط في دول غربيّة مسؤولة تاريخياً عن الاحتباس الحراري، ويسار عربي ينشط في الصفوف الأمامية لمواجهة مفاعيل الكارثة البيئيّة. واللائحة تطول. 

لكنّ شرط بروز أجندة مشتركة ومقنعة هو استعادة وزن اليسار في المشهد السياسي العربي.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024
بري: المفاوضات في ملعب إسرائيل
9 غارات تستهدف الضاحية الجنوبية
تخوّف من تفخيخ جيش الاحتلال مستشفى ميس الجبل الحكومي