ثمانون عاماً على الإنزال
في الذكرى الثمانين على إنزال النورماندي، تبدو أوروبا وكأنّها طوت صفحة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتعود إلى عالم كان من المفترض أنّ لا عودة إليه. حرب على أراضيها مع روسيا، انكماش اقتصادي، إبادة تكشف فراغ مؤسساتها، أنظمة سياسية باتت تفقد شرعيتها… والآن، أُضيف احتمال أن يصل اليمين المتطرّف إلى الحكم في فرنسا، بعدما بات هذا اليمين هو التيار السياسي الصاعد في معظم الدول الأوروبية. «فكرة أوروبا» باتت اليوم تشبه الإنزال، ذكرى بعيدة عن حدث لم يعد له صلة مع الواقع.
هيمنة اليمين المتطرّف
الأرقام الانتخابية، مهما كانت مخيفة، لا تعبّر عن عمق التحوّل الذي يمثّله صعود اليمين المتطرف. فالانتصار الانتخابي هو نتيجة نجاح عملية «الهيمنة» التي أنتجت هذا الواقع الجديد حيث «اليمين المتطرّف» بات هو «اليمين»، ليعيد تركيب الحالة السياسية من حوله. وهناك عدد من الأسباب التي ساهمت في نجاح عملية الهيمنة هذه، ومن بينها:
- الشعبوية، وقد باتت ربّما آخر مكوّن ديموقراطي، بمعنى أنّه ينطلق من سيادة الشعب، في وجه طبقة سياسية باتت مكوّنة من خُبراء، علاقتهم بالديموقراطية يسودها الالتباس، كما حصل مع لجوء الرئيس الفرنسي إلى المادة 49.3 لتمرير سياساته.
- السيطرة على الخطاب العام ودفع باقي الفرقاء السياسيين إلى تبني أطروحات هذا اليمين، أو على الأقل التعاطي معها وكأنّها هي المسألة الرئيسية، كما حصل مثلًا مع موضوع الهجرة والعائلة.
- وجود بُعد عالمي لهذا الخيار، ما يكسر طابعه المحلي، ويحوّله إلى الخيار الأكثر كونيّةً بين الخيارات المطروحة اليوم على الساحات الوطنية.
- والأهمّ، ربّما، محاولة تمثيل الطبقات المهمّشة في وجه نظام سياسي واقتصادي يبدو وكأنّه تخلى عنهم لضرورات إدارية أو مالية.
عالمٌ يحكمه التطرّف
في ميله التأديبي للناخبين الفرنسيين، أراد الرئيس الفرنسي تحميلهم مسؤولية خياراتهم من خلال التهديد بنتائج تصويت كهذا. وينطلق ماكرون من مَيْل عام يعتبر أن لحظة وصول اليمين المتطرّف إلى الحكم هي لحظة بداية نهايته، لكون مسؤوليات الحكم تفرض التخلّي عن الشعبوية، ما يُفقِده هذا الرونق المعارض للنظام. لكنّ هذا الرهان قد يكون مخطئاً، خاصّةً بعد تجارب كتجربة ترامب التي تُظهر أنّ مرحلة الحكم، مهما كانت مخيّبة للآمال، لا تبدو وكأنها تؤثّر على ناخبين ينظرون إلى أنفسهم في حرب مع نظام تخلّى عنهم. لا داعي للتنبّؤ بما سيحصل إن وصل اليمين المتطرّف إلى الحكم، فهناك تجارب حول العالم تقدّم وصفة حكم هذا التيار: التشدّد ضدّ الهجرة، الأولوية للأمن والاستقرار، دعم المحافظة الاجتماعية، رفض السياسات البيئية وغيرها. ربّما كانت الوصفة تختلف بين بلد وآخر، لكن ما يجمع بينها هو الميل القمعي نحو الاستقرار، خاصة في لحظة تقلّبات وتحوّلات كالتي نمرّ بها.
البديل ليس الوسط، بل اليسار
منذ عقود، يقدّم «الوسط» نفسه، أكان يمينياً أو يسارياً، كالبديل عن التطرّف. فهذا «الوسط» هو وريث «فكرة أوروبا»، القائمة على رفض التطرفات والأيديولوجيات لصالح سياسة أقرب إلى الإدارة العامة. يبدو هذا «الوسط» اليوم هزيلًا في وجه صعود التطرّف اليميني، ليس لديه ما يقدّمه إلّا ألاعيب انتخابية وتوبيخاً جماعياً. البديل، إن كان هناك من بديل، هو في مشروع هيمنة مضادّة، يعيد التوجّه إلى الناس الذين أُبعِدوا من قبل «الوسط»، في مشروع يساري لا يقبل بحتمية السوق. خارج خيار كهذا، لا يبدو أنّ هناك حاجزاً في وجه تحوّل اليمين المتطرّف إلى «الوسط» الجديد.