الفوز المتوقّع
كان فوز «التجمّع الوطني» في الانتخابات الفرنسيّة متوقّعًا، وإن كانت النتيجة صادمة. أكثر من 10 ملايين صوت ذهبت لليمين المتطرّف، بعدما كانت حصّته في عام 2022، حوالي الـ4 ملايين. وبات هذا الحزب مرشحًا للحصول على الأكثرية المطلقة، أو نسبة قريبة منها، وبالتالي إلى تولّي الحكم في فرنسا، ما يشكّل سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة. وحتى لو نجحت الألاعيب الانتخابية في منع «التجمّع الوطني» من الحصول على أكثريته، تبقى الحقيقة المرّة أنّ أكثر من 10 ملايين فرنسيّ اختاروا العنصرية والتطرّف والكراهية.
هل هم عنصريّون؟
سيأتي من يقول إنّ هذا التصويت ليس عنصريًا، بل مجرّد صرخة غضب في وجه أنظمة تناست فئات واسعة من المجتمع. كما سيقال أن «التجمّع الوطني» ليس «الجبهة الوطنية»، بل نتيجة مسار طويل من التلطيف لخطاب الجبهة القديم. ربّما كان هذا صحيحاً بعض الشيء، وربّما كانت تلك الملايين التي صوّتت لـ«التجمع الوطني» لا تعتبر نفسها عنصريّة، أو حتى أنّها قد تعارض بعض الانزلاقات العنصرية التي ستشهدها فرنسا من الآن فصاعدًا. لكنّ أولئك المصوِّتين جميعًا لم يمانعوا احتمال العنصرية، «امتياز البياض» يسمح لهم بالمخاطرة بحزب عنصري. ربّما ليس هناك 10 ملايين عنصري في فرنسا، لكن هناك 10 ملايين أبيض لا يمانعون العنصرية، وهذا كافٍ للفاشيّة.
عودة إلى الثلاثينات؟
قد تكون مخيّلتنا السياسية عالقةً في القرن العشرين. فصُوَر اليمين المتطرّف وهو يكتسح الانتخابات تعود بنا إلى ثلاثينيات القرن الفائت، عودة تشجّعها صور أخرى، كصعود الأحزاب الفاشية في أوروبا أو عودة الحروب النظامية على أرضها أو الأزمات الاقتصادية أو انهيار منظومة الحكم «الوسطية». وفي وجه هذه الصور، صور أخرى تريد مقاومتها، تعود إلى تاريخ «الجبهة الشعبية»، أو إلى ألاعيب «الجبهة الجمهورية»، ليصبح فجأة احتمال «الحرب الأهلية» بين اليسار واليمين، كما وصف الرئيس الفرنسي الوضع، أو خطر «التمرّد»، كما حذّر مرشّح «التجمّع الوطني» لرئاسة الحكومة، جزءاً من الخطاب العام. فاشية، تمرّد شيوعي، حرب أهلية بين المتطرّفين… عادت فرنسا إلى القرن العشرين.
الفوز الأكيد
ربّما ستنجح لعبة «الجبهة الجمهورية» في منع «التجمع الوطني» من الحصول على أكثريته المطلقة. لكن حتى لو حصل هذا، فلن يغيّر حقيقة أنّ اليمين المتطرّف بات محورَ السياسة الفرنسية، والطرفَ الذي يفرض حدود الخطاب وعناوينه، وطبيعة التحالفات ومعنى الانتخابات. ما لن تنجح نتائج الانتخابات المقبلة في تغييره، هو أن «العنصرية» تطبّعت في فرنسا وبات التطرّف متنَ السياسة. الانتخابات ليست إلّا نتيجة هذا الانحدار الإعلامي والسياسي نحو التطرّف، انحدار لم تعد الأدوات المعتادة، من إعلام تقليدي أو أحزاب وسطية أو جبهات جمهورية أو تهذيب خطابي، قادرة على الحدّ منه.
نهايات العالم
قد يكون هذا التصويت الذي يعبّر عن نَفَس أُخرَوي، أكثر تماشيًا مع الزمن، رغم «رجعيّته». فبات هناك نَفَس «نهاية عالم» في الأجواء، مع عودة الحروب والإبادات، وانهيار منظومات فكرية ومؤسساتية سيطرت لعقود، وأزمات بيئية واقتصادية. «نهاية عالم» محمول من إعلام جديد ونظريات مؤامراتية، لم تعد هامشية، بل باتت أساسية في الحملات الانتخابية. «نهاية عالم» تجعل من القفز في المجهول مع انتخاب «التجمّع الوطني» خيارًا مقبولًا لـ10 ملايين أبيض فرنسي، وللمصالح الكامنة وراءهم.