يوميات الحرب على لبنان
ريان ماجد

صاروخ في باريس، نعامة في الجنوب، وجندي نباتيّ

29 تشرين الثاني 2024

صاروخ في باريس

وأنا أمشي في الشارع الموازي لبيتي في بانتان، في الضاحية الشمالية لباريس، يأتي صاروخ من السماء، يضرب المبنى الذي بجانبي، ولكنه لا ينفجر فيه، بل يرتدّ عائداً الى المصدر، إلى مُطلقه. لم يقع المبنى الذي أصابه الصاروخ بالشكل الذي تتهاوى فيه مباني بيروت وضاحيتها، لكنه انقلب رأساً على عقب.

استيقظت وأنا أفكّر في هذا العالم المتهاوي، المقلوبة فيه المعاني والمعايير، والذي لم يعد يخضع لأي قانون، وأُقنع نفسي بأن الصواريخ لا بدّ أن ترتدّ يوماً على مطلقيها، وأنه لن يكون أحد أينما كان، بمأمن وبمنأى عنها وعن هذا الجنون العام إذا لم يُوضع حدّ للإبادة وللمقتلة العلنية الحاصلة ولتواطؤ الكثيرين معها.

وكما هو الحال منذ أشهر بدت وكأنها منذ الأزل، يبدأ النهار على وقع التحذيرات والإخلاءات والغارات وعدد الشهداء وطائرات المساعدات التي تغطّ. أتذكر مع ذكر أسماء البلدات والقرى الجنوبية التي تزنَّر بالنار وتفخَّخ وتفجَّر وتتحوّل ركاماً كم أحبّ الجنوب، وإن ابتعدت عنه عاطفياً ولم أعد أزوره إلا فيما ندر منذ العام 2005، وكم أن كلمتَيْ جبل عامل وإيقاعهما، اللتين خطّهما والدي بألوان الجبال وبتشكيل فيه صلابة وليونة وجذور متمدّدة ومغروسة عميقاً في التراب، كم أنهما متجّذّرتان فيّ من غير أن أعلم. 


اليوم الذي سبق 7 أكتوبر

شغلني صراخ  آتٍ من المطعم المقابل لبيتنا وهتافات لحرية فلسطين، عن تتبّع خريطة الإخلاءات. عناصر شرطة ومجموعة أشخاص في الباحة الخارجية للمطعم. فخلال ندوة نُظّمت عن فلسطين بعنوان: «اليوم الذي سبق 7 أكتوبر»، اقتحمت القاعة مجموعة من الموالين لإسرائيل، لم يعجبهم عنوان الجلسة. فليس هناك ما هو قبل هذا التاريخ، ليس هناك سياقات ولا خلفيات. يرتمي واحد منهم على الأرض ويبدأ بالصراخ وبتمثيل تعرّضه للركل وللضرب، يضع يديه على خصره، يتقلّب أرضاً، لم يلمسه أحد، يجرّ جسده على الأرض ويرتمي من جديد بين أرجل الأشخاص الواقفين، متابعاً الاستعراض والصراخ، علّه يتلقى ركلة حقيقية من شخص فاض فيه القرف من الإجرام وتبرير الإجرام والعنصرية والكذب والسلبطة وقلب الأدوار. لكن لا أحد يلمسه.

ليس هناك احتلال في التاريخ قدّم فيه المُحتلّ نفسه على أنه الضحية، وليس فقط ضحية، بل الضحية الوحيدة، كما هو الحال مع الاحتلال الإسرائيلي، يقول جدعون ليفي في مداخلة له.

ضحية لا حول لها تملك جيشاً من أقوى الجيوش في العالم، مدعوماً من أكبر قوة في العالم، ضحية تبيد وتحتل وتتوسع وتحاصر وتجوّع، ضحية يحبّها الإعلام الغربي التقليدي بأغلبه، المقروء والمرئي والمسموع، فيرعاها، يؤمن لها الغطاء السياسي لكي تستمر بالإبادة، يقرّر وضع المبادئ التي تصون مهنته جانباً. ففي زمن الإبادة، هناك أولويات تستدعي عدم نقل المعلومات بل تحريفها، وإعتماد تصريحات جيش الإبادة كمصدر للمعلومات والتشكيك بالمعلومات الموثّقة من جهات متعدّدة ومختصّة. إعلام يموّه العناوين ويصبح فيه الصحافي محقّقاً مع الضيف المُعترض على الإبادة، فيقاطعه، ويحرّك رأسه مشكّكاً، ويغيّر ملامح وجهه استهزاءً بكلامه. 


الجندي الذي بات نباتيًّا

تقريران واحد في CNN والآخر في Le monde عن الاضطرابات التي يعاني منها الجنود العائدون من غزة، غزّة التي تركوها لكنها لم تتركهم. فواحد من الذين دهسوا مئات الفلسطينيين وطحنوا عظامهم، منهم من كان لا يزال حيّاً، لم يعد قادراً على أكل اللحمة. هؤلاء المئات الذين دهسهم الجندي المسكين، والذين تسببوا بتغيير نظامه الغذائي، لا ذكر لهم، مغيّبون هم ومئات الآلاف غيرهم. لم تُنزَع عنهم الأنسنة وحسب، بل إنّ أطفالهم يولدون كباراً أيضاً، كبار لا يستحقون الحياة.

لبناني عمره سنتان وُجد حيّاً بعدما أمضى 14 ساعة تحت الأنقاض نتيجة الضربة الإسرائيلية. هكذا يقول الخبر. وسبقته عناوين كثيرة مماثلة في صحف عديدة، تنتزع صفة الطفولة والمراهقة عن الأطفال والمراهقين اللبنانيين والفلسطينيين.

هو «عالم ليس لنا»، إحساس يتعمّق يوماً بعد يوم. عالم مريض يولّد شعوراً بالقرف والغضب والذهول والعجز والقهر يتراكم ويكبر حتى يكاد ينفجر ويوصل الى حافة الجنون. ولا يخفّف من وطأته أحياناً، عدا المسكنّات وأدوية الأعصاب إذا ما توفّرت، إلا رؤية كثر حول العالم يتشاركون هذه المشاعر ويقومون فرادى أو جماعات بكل ما أوتوا من قوّة ومعرفة وأمل وصبر ومثابرة ومقاومة بخلق عالم لنا، يخضع بالحدّ الأدنى، وبعيداً عن الأحلام والأوهام، إلى القانون والى المبادئ التي تنظّم علاقات الدول والى محاسبة كل من يتخطّاها. 


نعامة في الجنوب

وأنا أمشي في الشارع الموازي لبيتي في بانتان، يصلني من بيروت فيديو عن نعامة تركض في منتصف الطريق في ضيعة في الجنوب اللبناني، خالية، مفرغة من سكانها وأصحاب منازلها ومحالها التي دمّرت إسرائيل بعضها. تركض النعامة من غير وجهة، وحيدة وخائفة. أضع التلفون وأُكمل سيري في شوارع تبدو فارغة بالرغم من عجقة الناس فيها، ووحدها حيطانها التي رُسمَت عليها أعلام فلسطين ولبنان وكُتِب عليها «غزّة حرّة»، هي الحيّة.

في الليل، رحت أطير في السماء بحثاً عن أرض أغطّ عليها، لا أجد أرضاً، هناك فقط بحر وصخور. استعنت بسجادة اليوغا لأتمدّد عليها جوّاً علّها تدلّني على الأرض وترسيني على برّ، من دون نتيجة. وقفت على صخرة معلّقة في الهواء لأرتاح قليلاً قبل استكمال البحث، واستيقظت مع شعور أنني أريد فقط أن أغطّ في لوحة جبل عامل في بيت الطفولة في رأس النبع.  


غارة في رأس النبع

وبدأ النهار على خبر عاجل من لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف رأس النبع في بيروت.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تحقيق لجيش الاحتلال حول مقتل 6 أسرى إسرائيليّين بغزّة 
جائزة الشجاعة لوائل الدحدوح
عودة الناس، رحيل الأماكن
الصحافي فراس حاطوم يواجه «الحوت» هشام عيتاني 
تجميد الحسابات المصرفيّة لشقيق الوزير أمين سلام
4,047 شهيداً 16,638 مصاباً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان