فكرة قلق السياسة
هادي بستاني

صورة الوالد المُستبِدّ سيكولوجيا الجماهير الفاشية في لبنان

10 حزيران 2022

أذكر حلماً رواهُ مريضٌ عندي:

وجدَ الرجل نفسه ضائعاً بين أشجارِ غابةٍ داكنة. في جزءٍ كبيرٍ من الحلم، كان الرجل يركض بلا نقطة وصول، ويبرم في دوائر أحياناً. وبعدما ركضَ بعض الوقت، ظهر أمامه رجلٌ بزيّ عسكريٍّ كاكي، يرفع سبابة يده اليمنى ويشير نحو نقطةٍ بعيدة، وصداه يُردّد جملةً تتغلغل في جميع خلايا الرجل المريض: هناك، نهر الأردن. إذهب إليه. وما إن تعبره، رتّب حجارةً طويلةً وغطّها بالكلس ولتكتب عليها كلمات شريعتي.

تجدر الإشارة إلى أنّ للمريض خلفيةً مسيحيةً للغاية، وأنّ والدته اعتادت أن تروي له في صغره، كل ليلة قبل النوم، آياتٍ من العهد القديم. وعندما سألتُه إن كان رجل الزيّ العسكري قد ذكّره بأحد، أجاب المريض أنّ ملامح وجهه تشبه إلى حدّ ما ملامح والده.

بعيداً عن خوض تفاصيل الحالة، أجد الحلمَ المذكور خيرَ مثال عن أبعاد رمز «الأب»، وهذه الصورة متعدّدة الأبعاد هي التي سوف تتجلّى في المقال التالي، وهي الشخصية التي تدمج كلاً من والد الأسرة والقائد العسكري والله نفسه، والتي تظهر الطريق بإصبعها فارضةً القانون.


القائد-الأب

في كتاب سيكولوجيا الجماهير الفاشية (1933)، فكّك الطبيب والمحلّل النفسي فيلهلم رايش ألمانيا النازية وحاول تفسير الظاهرة التي قادت الملايين لاتّباع شخصية أبٍ استبدادية واحدة ومطلقة: «الفوهرر»، أدولف هتلر. وذلك بعدما أشار أستاذه، سيغموند فرويد، إلى الوظيفة الاجتماعية للأب.

يكون [الفوهرر] شخصيّة أبويّة استبدادية، بقدر ما يُدرك كيفية إثارة الروابط الأسرية العاطفية لدى الجماهير. يجتذب جميع مواقفهم العاطفية التي كانت في وقتٍ من الأوقات مخصّصة للأب الصارم، ولكن أيضاً الأب الحامي والمثير للإعجاب. غالباً ما سمعنا أنّ «هتلر كان يفهم كل شيءٍ بشكلٍ أفضل». هنا، تعبير واضح عن حاجة الطفل لسلوك الأب الوقائي. وفي ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، فإنّ حاجة الجماهير لهذه الحماية هي التي تمكن الديكتاتور من «إدارة كل الأمور».

ما يعنيه ذلك أنّ الجماهير التي عاشت يوماً دور طفلٍ لأبٍ تسلّطي، باتت تنقل اليوم هذا الدور إلى القائد، «الزعيم» الذي سيصبح والداً للجميع: بيّ الكل. ضمنياً، تقول هذه المقاربة أنّ الجماهير مسؤولة عن تبعيّتها للزعيم، لكن أيضاً، بسحب المنطق إلى أقصاه، مسؤولة عن تحرّرها. تضحّي الجماهير بحريتها بشكلٍ لاواعٍ مقابل عدم تحمّل مسؤولية هذه الحرية، فيتحمّلها القائد المُتوَقّع منه إرشاد الجماهير بإصبعه إلى الطريق الصحيح.


آباء الكلّ 

تتقاطع هذه المقاربة مع الواقع اللبناني الراهن. فهي تشير مباشرةً إلى حملة رئيس الجمهورية ميشال عون، عام 2016، حين سمّى نفسه صراحةً «بَي الكل». في حالاتٍ كهذه، وبتعابير سلافوي جيجيك، لا يضطرّ المرء دائماً أن يبحث عن تجليّات اللاوعي في أماكن عميقة، فهي تظهر أحياناً بشكلٍ علني، بشكل حملةٍ تُنشر على أوتوستراد جونيه- الدورة مثلاً. تتقاطع هذه الحملة أيضاً مع موقف رايش، إذ يلعب عون على وتر علاقة طفولة الجماهير بآبائها، بهدف تولّيه دور قائدهم.

لكن ما يُثير الاهتمام أكثر فأكثر، هو تجلّي هذه المقاربة في الحملات الانتخابية عشيّة 15 أيّار الفائت، وتحديداً في خطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله، حين ألقى خطاب حماية الإصبع. حافظوا على هذا الإصبع، صرخ نصرالله، رافعاً السبابة أمام آلاف الجماهير المبتهجة.

ما من مقولة تجسّد جوهر سيكولوجيا الجماهير الفاشية أكثر من هذا الخطاب. أدولف هتلر نفسه لم يتمكّن من صياغتها بشكلٍ أوضح وأدقّ.

بقوله «حافظوا على هذا الإصبع»، يذكّر نصر الله أطفاله أنّ إصبعه إذا كُسر، فإنّهم سيُترَكون تحت رحمة القلق، قلق تحمُّل مسؤولية أفعالهم بنفسهم، مثل أطفالٍ فُقدوا في غابةٍ واسعة بدون أهلهم. وبالرغم من كون نصر الله أفضل من صاغ هذه العلاقة في لبنان، أظهرت حملات الانتخابات النيابيّة أنّ معظم زعماء لبنان يتبنّون صورة الأب القوي التسلّطي بهدف جذب الجماهير.


بعد كل شي صار آخر سنتين، كيف بعدن الناس لاحقين الزعما؟

كان هذا السؤال أكثر الأسئلة التي راجت في الموسم الانتخابي. ويملك رايش، بحنكة، الجواب:

أكثر الأمور أهمّيةً هو تماهي أفراد الجماهير مع القائد. فكلّما زاد عجزهم، صار التماهي مع القائد أكثر وضوحاً، وصارت حاجتهم الطفولية للحماية تتماهى أكثر مع علاقتهم بالقائد. يرى التابع نفسه في قائده، وفي الدولة الاستبدادية [...]

يفسّر هذا الموقف لماذا تكون الحاجة لشخصية الأب في أوجها خلال الأزمات، وكيف يمكن استغلال هذه الحاجة بسهولة من قبل نفس أمراء الحرب الفاسدين القدامى.

السؤال يطرح نفسه هنا: ما العمل؟ هل نحن نتّجه بحقّ إلى التبعية الفاشية؟ والجواب: لا.

ما نحتاجه كي نتخلّى عن القيود التي تقيّدنا، هو ثقتنا بأنّنا ما إن قتلنا والدنا (بشكلٍ رمزي وبالمعنى النفسي)، سيكون لدينا شيء ما للهبوط عليه، خريطةٌ ترشدنا في الغابة الداكنة دون حاجتنا المستمرة لمن يوجّهنا. بناء هذه الخريطة يحتاج إلى تكثيف الجهود العملية كما النظرية، بهدف إنشاء نظام يعمل لصالح الجميع. نظامٌ لا نحتاج فيه للإصبع، ولا لـ«هذا الإصبع»، كي نتماهى معه. نظامٌ يمكننا فيه، بالمقابل، تحمّل مسؤولية رغباتنا، ويمكننا فيه أن نتماهى مع نِتاج عملنا. عندها فقط نقضي على مخاوفنا، نتملّك المسؤولية عن مستقبلنا، وندخل سن الرشد.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد