تحليل طوفان الأقصى
موسى أشرشور

طوفان الأقصى والثورة الجزائريّة

أوجُه الشبه والاختلاف

8 نيسان 2024

كثيراً ما يقارَن ـ في المنتديات السياسية والإعلامية ـ هجوم السابع من أكتوبر على غلاف غزة بثورة أول نوفمبر الجزائرية، بوصفه الشرارة الكفيلة بإشعال حرب تحريرية طويلة الأمد، والتأسيس لمسار ثوري فعلي. في الواقع، يبدو السابع من أكتوبر الفلسطيني أقرب إلى هجوم 20 آب 1955 الذي نفّذه جيش التحرير الجزائري في منطقة سكيكدة (فيليبفيل سابقاً)، والذي وُصف آنذاك بالعملية الانتحارية أو المغامرة غير محسوبة العواقب، بالنظر إلى حجم الخسائر في الأرواح، ثمّ عاد المؤرّخون وأجمعوا بعد ذلك على أن هذا الهجوم كان حاسماً في مسيرة الاستقلال. 

هجوم كاسح ورد فعل وحشي

انطلقت الثورة الجزائرية في ليلة الفاتح من نوفمبر بهجمات رمزية ومحتشمة، استهدفت عدداً من مصالح العدو من مراكز أمنية ومرافق عبر مناطق متفرقة من البلاد، ولم تكن للقيادة حينها الإمكانيات البشرية والمادية الكافية لإحداث الزلزال الذي يهزّ أركان الاحتلال. وظلت لأكثر من ثمانية شهور تراوح مكانها، في الوقت الذي كان الجيش الفرنسي يحكم الخناق على منطقة الأوراس التي انطلقت منها الشرارة الأولى، والتي كانت أكثر المناطق نشاطاً. بدأت الثورة تفقد كثيراً من جذوتها، إلى أن وقع هجوم 20 آب 1955. قرر قائد الولاية الثانية (التي تشمل إقليم ما يعرف بالشمال القسنطيني)، الشهيد زيغود يوسف، تنظيم عملية استثنائية، الهدف التكتيكي منها فك الحصار على الولاية الأولى (الأوراس نمامشة)، المتاخمة للولاية الثانية، وتهدف استراتيجياً إلى إشراك الجماهير (بدافع الانتقام) وإيصال الثورة إلى نقطة اللارجوع. كما فرضت على الجيش الجزائري (مجاهدين وفدائيين) اعتماد أسلوب ثوري في حربهم ضد الجيش الاستعماري، لا يقتصر على أسلوب حرب العصابات. وكان أيضاً من تداعيات هجوم 20 آب، توسيع رقعة الثورة، ونقلها إلى منطقة القبائل بداية من عام 1956 ثم إلى الجزائر العاصمة بداية من عام 1957، مع اندلاع معركة الجزائر التي اقتحمت فيها الثورة لأول مرة العالم الحضري بعد انكفائها في الأرياف.  

العملية هي هجوم جماعي خاطف استعملت فيه كل أنواع الأسلحة البيضاء، ودام ثلاث ساعات (من الثانية إلى الخامسة فجراً)، استهدف منشآت وعساكر ومستوطنين أوروبيين متواجدين في نحو أربعين قرية ومدينة من الشمال القسنطيني (سكيكدة، القل، قالمة، ميلة...)، قُتل فيها العشرات من المعمّرين والعساكر وعملائهم (171 حسب المؤرخ بنجامين ستورا)، واستشهد ـ حسب مصادر متطابقة ـ حوالي 12 ألف جزائري جراء الحملة الانتقامية الشعواء التي شنّها جيش الاحتلال في صفوف الشعب. 

وهنا تتجلّى أوجه الشبه مع طوفان الأقصى: 

  • أوّلاً، الفارق الهائل في عدد الضحايا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي (ألف ومئتان مقابل أكثر من 33 ألفاً).
  • ثانياً، نوعية ووحشية ردّة فعل الطرف المستهدَف، وعدم تحرّجه في استخدام أبشع الأساليب في القتل والتنكيل بالأبرياء، يغذّيه إحساس باللاعقاب.
  • ثالثاً، نزوح السكان من الجانبين. فمثلما اضطر آلاف من المستوطنين الفرنسيين لمغادرة المناطق القروية واللجوء إلى المناطق الحضرية المؤمّنة، أرغِم الآلاف من سكان جنوب وشمال إسرائيل على ترك مواقعهم خوفاً من الضربات الصاروخية التي تأتي من غزة ومن جنوب لبنان.
  • رابعاً، كسب الرأي العام العالمي وتدويل القضية، بحيث ساهمت أحداث الشمال القسنطيني في إدراج القضية الجزائرية لأول مرة في جلسات الأمم المتحدة للنظر فيها. كذلك، بالنسبة للقضية الفلسطينية، بلغ التعاطف مع الفلسطينيين في محنتهم أعلى مستوياته، وهناك عدد متزايد من الدول الأوروبية المستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وآخرها كانت إيرلندا.

يحيى السنوار على خطى زيغود يوسف؟ 

فاجأت عملية 20 آب الجميع، بمن فيهم القيادة المركزية للثورة. يقول شهود عن تلك الأحداث في الجزائر أن العقيد زيغود يوسف لم يستشِر أحداً من القيادات السياسية أو العسكرية في اتخاذ قراره. يقول صالح بوجمعة، وهو أحد مساعدي زيغود يوسف في شهادة له: لقد كانت العملية، من أولها إلى آخرها، من صنيع زيغود يوسف لوحده. فخلال الاجتماع (الذي سبق الهجوم)، فهمنا بأن مشروع زيغود لم يكن فقط إطلاق عملية كبيرة، وإنما عملية يكون لها صدى سياسي وعسكري كفيل بزعزعة استقرار جيش العدو. وكان من خلال ذلك يطمح للارتقاء بالثورة على كافة المستويات.

يُفهَم من ذلك أنّ التكتّم المطلق في هذا النوع من العمليات هو ضمان لنجاحها. وهذا ما قد ينطبق على عملية طوفان الأقصى، حيث تبيّن مع توالي الأحداث، وبالنظر إلى عدة قرائن، أن قائد حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار ـ ومن معه في الدائرة الضيقة من قادة كتائب عز الدين القسام ـ لم يرجع إلى القيادة الخارجية، ممثَّلةً بأعضاء المكتب السياسي. وهذا ما يرجّحه مثلاً ياسر عبد ربه، وهو من أبرز السياسيين الفلسطينيين ممّن واكبوا تطور الحركة الفلسطينية، في حديث نادر له نشرته الشرق الأوسط: الذي حصل لم يكن بمعرفة قيادة حماس في الخارج، وإلا لَمَا استقبلت هذا الحدث بنفس الدهشة والاستغراب، وحتى أجرؤ على القول، الصدمة التي استقبلها بها الآخرون من خارج (حماس)... هم حاولوا أن يلملموا أنفسهم وألا يبدوا كأنهم في حالة تعارض مع قيادة الداخل، وحاولوا أن يجدوا الذرائع والمبررات بالقول إن هذا قرار القيادة العسكرية في الداخل، وإن القيادة العسكرية مخوّلة بأن تتخذ ما تشاء من قرارات، وأين أنتم كقيادة سياسية؟ تكتموا على هذا الموضوع حتى اليوم. وهذا ما يُستشَفّ فعلاً من أحاديث أعضاء المكتب السياسي، الذين يكتفون بمسايرة الأحداث، وأيضاً من مسار المفاوضات، ومن التردد الذي طبع المفاوضات في بعض مراحله... كل هذا يؤكد أن قيادة الداخل هي من يملك زمام المبادرة لأول مرة ربما منذ تأسيس حركة حماس.  

هذه التجاذبات حول احتكار سلطة القرار أحدثت تشنجات خطيرة في الثورة الجزائرية، أدت في بعض الأحيان إلى تصفيات جسدية (قضية العقداء الخمس الذين تم إعدامهم سنة 1957، واغتيال عبان رمضان، أحد قادة الثورة، في نفس السنة، وتكتلات داخلية أضعفت الثورة. كما حدثت حركات تمرّد في أوساط كتائب الداخل (مثل حركة الضباط الأحرار في الولاية الثالثة)...

يعترف لخضر بن طوبال، أحد أقطاب الثورة وخليفة زيغود يوسف على رأس الولاية الثانية قبل التحاقه بالقيادة السياسية في الخارج، يعترف في مذكراته بحقيقة الصراع بين الداخل والخارج: لو بقيت القيادة بالداخل فما كانت لتحدث تلك الانحرافات، ذلك أن القيادة بالداخل تعيش نفس ظروف الكفاح، وتستشهد كما يستشهد الشعب، كما تعرف احتياجات الجيش الحقيقية وما يعوزه، وتتعرض لنفس المخاطر وتعاني من نفس الحرمان الذي يعانيه جنودها... فأي قيادة تضطر- لسبب أو لآخر- لمغادرة الوطن، فإنها قد خرجت من ميدان الكفاح...

أوجُه الاختلاف

لعلّ طوفان الأقصى يختلف عن الثورة الجزائرية أساساً بكون حركة حماس التي تقود المقاومة لم تجرؤ على إنشاء مقاومة موحّدة تشكّل هي أحد عناصرها، واحتكر قادتها التعليق على الأحداث سياسياً وإعلاميًا وحتى عسكريًا، مما جعل الإعلام الدولي يصف الأحداث بالحرب بين إسرائيل وحماس. لم تستطع المقاومة الفلسطينية تذويب الفروق وتحقيق الوحدة المرجوة بين مختلف الفصائل. فإذا كان هناك تنوّع إيديولوجي في تركيبتها (حركة الجهاد الإسلامية، والجبهة الشعبية اليسارية) ووجود لما يسمّى بلجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية، فإن المقاومة ـ المختصرة في حماس ـ لم تحاول كسب حركة فتح، التي لها دور تاريخي ورصيد رمزي كبير في تاريخ النضال التحرري الفلسطيني. والواقع أن قيادة فتح الحالية تبدو مشلولة، وعاجزة عن مواكبة الأحداث. ولقد وصل الأمر بالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في رام الله إلى حدّ ملاحقة مقاومين واحتجازهم، مثلما حدث في طولكرم في الأيام الأخيرة.

جاء ذلك بعكس جبهة التحرير الجزائرية التي أذابت كل الأحزاب والتيارات الوطنية في جبهة واحدة. فاستطاعت مجموعة الثوار الأولى، بعد انفصالها عن حزب الشعب بقيادة مصالي الحاج، أن تدمج في صفوفها تيارات كانت عشية اندلاع الثورة معادية لأي عمل مسلح، مثل حزب البيان الذي يرأسه فرحات عباس، ووصل بها انفتاحها إلى حدّ تولية هذا الأخير رئاسة أول حكومة مؤقتة سنة 1958. كما أدخلت أعضاء في جمعية العلماء المسلمين، رغم امتعاض الكثير من القادة الثوار من هذا القرار. كما أدخلت عناصر من الحزب الشيوعي، وكان لهم فيما بعد دور في الهيئات القيادية.

يسود اعتقاد بأن قائدًا ذا كاريزما مثل مروان البرغوثي، أحد قادة الانتفاضة التاريخيين، قادر على تعبئة قواعد حركة فتح في الضفة الغربية، باتجاه العمل الثوري. وهذا ربما ما تتمناه قيادة حماس وتسعى لتحقيقه، من خلال إلحاحها على المطالبة بالإفراج عن عدد من كبار السجناء الفلسطينيين ضمن صفقة تبادل الأسرى المتعثرة منذ أشهر. وهذا ما لن تخاطر به إسرائيل في كل الأحوال.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر