فجّر الرئيس عبد المجيد تبون قنبلة لا يقّدر أحد تبعاتها في المستقبل القريب، حين أعلن تحدّيه ـ بتعبيره العفوي والإيحائي ـ لدولة يُفترَض أنّ لها نفوذاً أخطبوطياً في كل أقطار العالم العربي. كلامه عن استعداد بلده لمواجهة أي تهديد يأتي من «الدولة الشقيقة» («يقرّبوا يشوفوا») وعن نفوذ صبره، يشي ضمناً بوصول الاحتقان بين البلدين إلى مرحلة حرجة، وبأنّ هناك تأهُّباً فعلياً أو مؤامرة تحيكها الإمارات ضد الجزائر. عدّد الرئيس تبون «مآثر» الإمارات في دول الجوار، مثل ليبيا ومالي والنيجر والسودان، لكن هذه الأحداث ليست بجديدة، ولا تمسّ الجزائر بشكل مباشر، وإن كان تغيّر النهج السياسي مؤخراً في كلٍّ من مالي والنيجر في غير صالح الجزائر. فهل هناك أبواب أخرى ـ داخلية مثلاً ـ يمكن للإمارات أن تضرب منها الجزائر؟
لو عدنا إلى السمعة المتداولة عن دولة الإمارات ودورها المفترض في تنظيم الثورات المضادة لإطفاء الربيع العربي عام 2011، بداية من تونس ومصر وسوريا وليبيا وصولا إلى اليمن، نجد أن لا شيء يستدعي نظرياً ما يجذب الإمارات للانشغال بالجزائر. وهذا لسببين وجيهين: الأول هو أن النظام الجزائري نفسه منع امتداد موجة الربيع العربي إلى البلد. ثانياً، إن نفس النظام كان أول من منع وصول الحركة الإسلامية ـ التي يحاربها النظام الإماراتي وأصبحت حصان طروادة له ـ إلى الحكم، وذلك في بداية التسعينيات، واستطاع أن يقمعها ويدمج التيارات المعتدلة منها في اللعبة السياسية. والغريب أن الإسلاميين الراديكاليين ـ وجناحاً من المعارضة الجزائرية ـ اتهموا السلطة، في بداية الحراك عام 2019، بمحاولة الاستنجاد بالخبرة الإماراتية في وأد الثورات الشعبية، مستدلّين على ذلك بتردّد قائد أركان الجيش آنذاك، الجنرال أحمد قايد صالح، إلى أبو ظبي. لهذا، كانت الإمارات تبدو حليفاً موضوعياً للجزائر في كل الظروف التي مرّت بها.
كيف نشأت الأزمة؟
لم يكن ذكر اسم الإمارات العربية بسوء يأتي في الجزائر إلا على ألسنة النشطاء السياسيين، ولا سيما منهم المحسوبون على حركة رشاد الإسلامية ـ المنضوية تحت لواء الإخوان المسلمين والمتعاطفة مع تركيا وقطر ـ مثل الدبلوماسي السابق المقيم في لندن العربي زيتوت.
بدأت الأصوات الموالية للسلطة بتكثيف انتقادها للإمارات بعد القرار الذي اتخذته السلطات الإماراتية، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2023، بإعداد قائمة بأسماء شخصيات جزائرية تمنعها من الإقامة على الأراضي الإماراتية، وفقاً لما أوردته مصادر إعلامية حينها. جاء ذلك ردّاً على اتهامات بالتجسّس والإضرار بالمصالح الوطنية التي وجهها الإعلام الجزائري للإمارات. كانت تلك الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل الأزمة بين الجزائر وأبو ظبي، من دون أن يكون هناك مواقف رسمية صريحة من كلا الطرفين.
يلخّص الكاتب الصحفي حسان زهار موقف الجزائر غير المعلن بهذا التساؤل: «متى تتوقف مؤامرات الإمارات؟». يقول: «لم تصل العلاقات بين الجزائر وأبو ظبي، إلى هذه الدرجة من السوء كما هي اليوم؛ فمنذ سقوط نظام بوتفليقة الذي كانت أجنحة بداخله مرتبطة عضويا بدولة الإمارات، بدأت الجزائر تتحسس الخطر الإماراتي الداهم على أمنها القومي، الذي كان يزحف باتجاهها من دول الجوار العربي والإفريقي، خاصة وأن هذا الخطر الجديد بصيغته المالية الاستخبارية، كانت تؤطره دولة الكيان الصهيوني مباشرة، وتقوم بتنفيذ مخططاته دولة المخزن [المغرب] المجاورة».
تعقّدت الأمور بعد ذلك بجدل آخر فجّرته جريدة «النهار» الموالية للنظام عن عزم السلطات طرد السفير الإماراتي واعتقال «أربعة جواسيس إماراتيين يعملون لصالح الموساد الإسرائيلي». والغريب أن السلطة فنّدت تلك الأخبار وأقيل بسببها وزير الاتصال آنذاك، محمد بوسليماني. هل كانت رسالة للتهدئة أم هي طريقة للتمويه وجس النبض؟ يبقى أن بعض المصادر أشارت إلى أن الاحتقان بين البلدين أدى بهما إلى تخفيض التمثيل الدبلوماسي بينهما، وهذا ما لم تصرح به السلطات الرسمية في كلا العاصمتين.
القطرة التي أفاضت الكأس، كانت إخفاق الجزائر في الانضمام إلى منظمة «البريكس»، بعدما عقدت آمالا كبيرة عليها. واتهمت الإمارات بالتآمر ـ مع الهند ـ لإزاحة الجزائر. وهذا كافٍ في نظر الجزائريين لكي يرتابوا من أي تحرك إماراتي، خاصة على مستوى الأمم المتحدة، حيث كانت الإمارات من بين المصوّتين ضدّ ترشح الدولة الجزائرية للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن.
إلى جانب ذلك، اتهمت صحف جزائرية «مستقلة»، وعلى رأسها «الخبر»، القيادة الإماراتية بتزويد المغرب بنظام تجسّس متطوّر، وتقول إنّ هذه التجهيزات من صنع إسرائيلي وموجهة ضد الجزائر. وأوردت الصحيفة نفسها معلومات عن شروع المخابرات الإماراتية بإدخال كميات كبيرة من المؤثرات العقلية إلى الجزائر عبر الحدود البرية الليبية. ونقلت الإذاعة الجزائرية عن مصادر لم تذكرها أن الإمارات العربية منحت 15 مليون يورو للمغرب من أجل شنّ حملات على منصات التواصل الاجتماعي بهدف ضرب استقرار بلدان الساحل.
ماذا يُخفي صمت الإمارات؟
لعلّ ما يزيد القضية غموضاً وحيرة هو عزوف السلطات الرسمية في أبو ظبي عن الرد على اتهامات الرئيس تبون. قد يعود ذلك إلى عدم ذكر الإمارات بالاسم. لكنّ مسارعة مستشار رئيس الدولة للشؤون الدبلوماسية، أنور قرقاش، للتعليق على كلام الرئيس الجزائري، لم تترك مجالا لأي تأويل. قال قرقاش في تغريدة له على مواقع التواصل الاجتماعي: «غريب أمر إحدى الدول الشقيقة البعيدة تمارس الغمز واللمز حول علاقاتها مع الإمارات، وتواصل التلميحات المبطنة دون إفصاح أو توضيح، ومع ذلك فالترفع عن الرد والصبر على التطاول سيبقى سبيلنا، فالحكمة موروثة عند قيادتنا التي تعتبر العلاقات مع الدول الشقيقة أولوية وركيزة محورية في سياستنا».
لم يتعدَّ الردّ الإماراتي هذا الحدّ، إلى جانب تعليقات قليلة لأكاديميين مثل عبد الخالق عبد الله الذي خاطب الرئيس تبون بعبارات توحي برغبة في عدم المواجهة العلنية: «سيادة الرئيس، لديك أزمات داخلية عوّيصة عالجْها بالحكمة والإدارة الرشيدة ولا تسقطها تلميحاً وجزافاً على طرف خارجي في محاولة ميكيافيلية مكشوفة للهروب إلى الخارج لتغطية اخطاء الداخل».
وما يؤكد هذا الإصرار على تفادي الصدام مع الجزائر، تجاهل الصحافة الحكومية أو الموالية للحكومة في أبو ظبي للموضوع تجاهلاً تامّاً. كذلك حال أنشط المنصات والمواقع الإخبارية الإماراتية، مثل إرم والعين والخليج، التي تتابع أخبار الجزائر عن كثب منذ الإعلان عن انتخابات مسبقة في هذا البلد، كما تنقل تصريحات الرئيس تبون بشكل منتظم، باستثناء ذلك اللقاء المثير مع الصحافة الذي هاجم فيه الإمارات. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على وجود نوع من الرقابة ـ أو الرقابة الذاتية ـ في هذا الموضوع يشي بوجود تعليمات لعدم إثارة الموضوع على الأقل إعلامياً، وهذا لا ينفي بالتأكيد وجود ترتيبات وحسابات سياسية غير معلنة.
والملاحظ أيضاً أنّ وسائل الإعلام الإماراتية، بمختلف وسائطها، تتحاشى مهاجمة الجزائر وتداول القضايا السجالية التي تسيء لسمعة نظام الحكم. مثل هذه المهمات توكَل عادةً لصحف ومواقع دولية، مثل يومية العرب الصادرة في لندن. وكانت هذه الجريدة هي التي ترد على كل الحملات الإعلامية التي شنتها الصحافة الجزائرية على الإمارات منذ أكثر من ستة أشهر. «ماذا تريد الجزائر من حملتها على الإمارات؟» عنوان مقال ناري تساءل فيه «عما إذا كانت الجزائر قد قررت اختيار الإمارات عدوا خلال هذه المرحلة للتغطية على فشلها في معالجة ملفات محلية وخارجية؟» ليمضي صاحب المقال في تحليله أو ما يشبه النبوءة: «لا يفكر النظام في مصالح الجزائر، وأن هذه الحملة قد تقود إلى هجرة الاستثمارات الإماراتية المهمة مثل استحواذ موانئ دبي على ميناءي العاصمة وجن جن بمحافظة جيجل في شرق البلاد ومركّب تجميع المركبات العسكرية لعلامة مرسيدس الألمانية وشركة «مدار» للتبغ التي تستحوذ هي الأخرى على نادي شباب بلوزداد الناشط في دوري المحترفين». وفعلاً، قرّرت السلطات الجزائرية، في مذكرة صادرة عن وزارة العدل في كانون الثاني/ يناير 2024، تعليق كل الصفقات مع شركة «مدار» للتبغ. كما تعاني شركة دبي للموانئ من ضغوط متزايدة وصلت إلى حدّ الشروع في مساءلتها بدعوى تعمّد التأخير في تسليم البضائع في ميناء الجزائر بغرض فرض رسوم إضافية على المستوردين. كما لا يستبعد المراقبون تجميد صفقة المركبات العسكرية المبرمة بين البلدين.
فإذا استمرّ الوضع على هذا المنوال، فمن سيستغرب إن أُعلِن غداً قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والإمارات؟