نثبِّت اللحظات لتأسيسيَّتها. لكن تثبيت اللحظات شيء، واستسهال النظر إليها كمنطلق لانتصارات دائمة، ينكر الزمن الذي نعيشه، شيء آخر. البحث الدائم على الانتصارات لا يلبث أن يؤدي بمعتمِده إلى نفي اللحظات باللحظات، لتستبدَل ما قبل 17 تشرين ليس كما بعده بـما قبل 4 آب ليس كما بعده.
بين موجات التثوير التي نوعَد بها، ولحاقًا بالمنطق اللحظاتي، ما الذي حدث بين 17 تشرين و4 آب، وكيف نفينا هذه الفترة الزمنية مع الإبقاء على روح انتصاراتنا؟ وإن كنا منتصرين بهذا القدر، فما هذه التروما الجماعية المسيطرة؟ وما هو هذا الخطاب العصابي الصمودي الذي يرفرف يقينًا وإيمانًا بين وحول هذه التروما؟
لقد كانت لحظة 17 تشرين لحظة أهلية وشعبية بامتياز. وفي مساءلتها لشرعية النظام كمنت تأسيسيتها. أما الانخراطات في الأحداث اللاحقة، فسرعان ما نفت هذه اللحظة، عمدًا وسوء تقدير، إلى زمن سابق لها، وقوقعتها في إطار مدني وإصلاحي ومهرجاناتي وأخلاقي.
ضمرت اللحظة ولم تتّسع بما يكفي لتصنع زمنًا جديدًا.
فلنتذكر مقاربات صاغت خطابًا عامًا مناوئًا لاستنباط الزمن الجديد:
- استسهال القول إنَّ الحرب الأهلية انتهت عند كل مظاهرة.
- مواقف طبقية من نوع اندساس رايح، اندساس جاي.
- خطابات طائفية في الرد على ثنائية 8/14 عند كل احتكاك أهلي.
- ذمّ المسألة الطبقية.
- التطبيع مع الإعلام المدعوم من قبل المصارف ورجال الأعمال والسياسيين.
- الركون إلى خطابات آذارية (8 و14) بينما يجدر تهشيمها وإعادة خلطها بما ينزع الاستقطابية السابقة.
- عبادة السلمية وتصنيم الساحات.
- الإيحاء بـوطنية لبنانية زائفة هي ابنة هذا النظام بعدم الدعم اللازم لضحاياه من غير اللبنانيين (العاملات المنزليات، حراك المخيمات…)، وعدم احتضانهم في مقدمة الاعتراض العام.
- لوم «الشعب» الدائم، في مظهرة طبقية لمشكلة الناشط غير المسيَّس الذي يرى في أي حدث لحظة تحقُّق شخصية.
- عدم البدء في التنظيم السياسي، ومعاداة العمل الحزبي، والإيحاء بضرورة مناوءة السياسة توازيًا مع الحوار مع النظام سياسيًا وإعلاميًا وأمنيًا.
- التنسيق مع المؤسسات الأمنية، وصولًا إلى تحييد مسؤولية بعضها في جريمة المرفأ.
- اختصار الوضع في فساد معزول عن المشكل السياسي والدخول في نقاش العدالة التقنية، ما يؤدي حتمًا إلى نفي المسؤولية النظامية عن الانهيار وجريمة المرفأ.
- حماية بعض المسؤولين في الدولة من مدخل المواجهة العلنية لخطاب آذاري أول والدعم الضمني لخطاب آذاري آخر.
- السذاجة والشخصانية في التواصل مع شخصيات دولية، وشطب سياقات داخلية وإقليمية وخارجية، والظن أنَّ في صالح المجتمع الدولي عدم تعويم هذا النظام.
- عدم الاعتراف بـالمشكل الكياني وبمواطن قوى النظام، وعدم صوغ تصوُّرات لجمهورية جديدة على الإطلاق، وعدم مناقشة حتمية مراجعة العقد الاجتماعي، والاكتفاء بالركون للحديث عن صلاحيات تنفيذية استثنائية والإتيان باختصاصيين وكتابة مشاريع هي تجميلات لمعارضات سابقة بلا أدنى خيال يذكر.
كل هذه المقاربات توحي أنَّ ما بعد 17 تشرين شهد اعتراضًا على النظام من داخله بروح إصلاحية، كأنَّ انهيارًا لم يقع، وانفجارًا لم يمحُ مرفأً ويهشِّم أحياء بيروت. وما يقوله العمل الإصلاحي إنَّ هناك أملًا في نظام العدالة في ظل نظام كهذا. فهو كعادة أي إصلاح لا يرغب في الانخراط في «مغامرة» جذرية، ويفضل عليها «العمل» الموضعي، و«يتسلَّح» همسًا بسياق «إبعاد الحرب»، وهو يفعل كل ذلك بينما يتحدّث واثقًا عن «ثورة». لكنّ هذا الإصلاح ينتهي رافعة للنظام، لأنه ببساطة يرمِّم شرعيته ويعترف بوجوده. من 17 تشرين حتى اليوم، تراكمت اللحظات، وتقوقعنا في زاوية المنطق الإصلاحي، وانهمكنا في شرح ازدواجية خطاب رؤوس الجمهورية الثانية وأعوانهم. لكنَّ فضح الجمهورية لم يمنعها من التعامل مع انفجار بيروت كفرصة، ومواصلة مسيرتها المظفرة من دون أدنى تغيير في الأسلوب حتى، بل مع انعدام حياء أكبر.
هل هذه دعوة إلى اليأس؟ لا. هذه دعوة إلى الفهم الدائم للسياق، ورغبة في تحديد مراحل الضعف والقوة. لا مشكلة في الانكفاء أحيانًا، وفي الهجوم أحيانًا أخرى، وفي الاعتراف بأنَّ محاولة مرحلية قد تكون انتهت. الهجوم الدائم نكران، ولوم الآخرين تعالٍ على فهمهم للسياقات، ولا أمل بلا يأس، ونحتاج اليأس لنحافظ على جذرية المقاربات. لا أمل بلا فهم للسياق. والسياق الآن، أننا في لحظة انكفاء قبالة تعويم دولي لهذا النظام، وانهيار معيشي يعاني منه اللبنانيون، بينما لا نقوم بأدنى المطلوب لصوغ أفكارنا عن المستقبل.
هذا النظام غير قابل للإصلاح، لكنه يحاول حل مشاكله، فينخرط في مفاوضات مع العدو الإسرائيلي من أجل غازٍ سينعش منظومة الانتفاع المالي وسيعيد صوغ علاقته مع جماعاته، وينحني أمام مبادرات دولية ومشاريع قادمة، وسيبيع أملاكنا في الدولة من دون رفة جفن، ليحفظ بقاءه.
ولن تكون مفاجأة، أن نصحو ذات يوم لنشهد إطلاقهم لجمهورية جديدة، بعد بشارة الدولة المدنية، مختلفة في الظاهر، أسوأ في المضمون. وكي لا نتحول إلى زومبي في هذه الجمهورية، علينا ربما أن نعي أننا في انكفائنا وهجومنا، ويأسنا وأملنا، وتعبنا ونشاطنا، وفشلنا ونجاحنا، نصنع ببطء زمننا. أما حماية هذا الزمن فتكون بتوسيعه والمضي قدمًا، وليس بالمراوحة في التصنيم المتكرر للحظات.