«قلقٌ في بيروت»، الأوّل في مهرجان شانغهاي. نال زكريا جابر جائزة المهرجان عن فئة الأفلام الوثائقية. لكن الأهمّ أنّ قلقنا بات معمّماً، وبات مُعترفاً فيه كمتصدّر، مثل تعاستنا وانهيار ليرتنا وأزمتنا الاقتصادية التي تتصدّر مختلف دراسات الخبراء حول العالم.
قلقٌ لا هزيمة
«قلقٌ في بيروت»، عنوان الفيلم ومضمونه. فيه حكاية عن ثلاث سنوات من أزمات متنقّلة ومتعدّدة، وثّقها لنا زكريا وقدّمها لنا من دون تكلّف، ولا مؤثرات خاصة. لا لشيء، على الأرجح، لأنّ واقعنا اللبناني ليس بحاجة لافتعال.
ثلاث سنوات من التخبّط والانهيارات، لم نتمعّن فيها بعد، لكنّنا نعيش خلاصاتها ونتائجها. الرواية واضحة ونعرفها جميعاً. انتفض الناس على عصابة نهبت البلد، فتمّ قمعهم، ثم كانت أزمة وانهيار وإفلاس. جاء فيروس كورونا ليُنهي حركتهم في الشارع، ثم أتاهم انفجار مدمّر من صنع العصابة نفسها، ليقضي عليهم وعلى ما تبقى فيهم من نَفَس. هذه حكايتنا التي لم نجرؤ بعد على توصيفها، ولا الاستنتاج منها.
الهزيمة بادية على الجميع، في الفيلم والواقع. تتجسّد بكرتونة إعاشة. ببطاقة سفر وهجرة. بكأسٍ فارغة على شرفة منزل بيروتي. بمروحةٍ على البطاريّة. لكنّ زكريا يرفض الاستسلام، أو أقلّه لم يطأه بعد. يوثّق قلقنا، ويعبّر عنه. وفي الشعور بالقلق رفض للاستسلام. من يتسمّك بأمل يقلق، ومن ينتظر موتاً أو جائزة، يقلق. من لا تزال تدبّ فيه الحياة ولو غصباً عنه، يقلق.
ثنائيات ومعادلات
قصّة قلقنا البيروتي، أخرجها زكريا من أصدقائه، وعائلته الفعليّة الصغيرة، ببساطة عبارات وثنائيات، تقدّم معادلات سياسية واجتماعية تحكي الكثير وتلخّص الكثير.
قلقنا، من مواجهتنا مع المصارف. مروان خير الدين شاري بيت بعشر ملايين دولار بأميركا والناس بلبنان ما معها تسحب مصرياتها. شو بدنا نعمل منكسّر المصرف.
قلقنا، من مواجهتنا مع السلطة وعسكرها. هوّي (العسكري) السلطة، مش جزء من السلطة، هوّي السلطة، السلطة كلّها واصلة لعندي بعُنصر، السلطة متمثّلة بعُنصر، الشعب بفرح درويش.
قلقنا، من تحكّم السلطة حتى بموتنا. ما اخترنا طريقة عيشنا، أوكي، بسّ خلونا نختار طريقة موتنا. أما الإثنين هنّي يختاروهم، لأ ما حلو.
قلقنا، من استسلام آتٍ لا محالة. غداً موت آخر، اليوم كان هيروشيما، بكرا ناغازاكي، وبعد بكرا نرفع الراية.
قلقنا، من يوميّات القلق. طيارة، تابوت، بتسافر أو بتموت.
ثنائية جيلَين
يفقِد زكريا القَلِق، أصدقاءه واحداً تلو الآخر. يختارون الطائرة على التابوت، والسفر على الموت. فتحوّل زكريا إلى شوفير تاكسي مع كاميرا، يوثّق الطريق إلى مطار بيروت، مشواراً تلوَ الآخر. هو وأصدقاؤه، من أبناء جيل السلم الأهلي يغادرون، كما سواهم. وُلدوا في تسعينيات إعادة الإعمار على واقع مزدهر. ارتطموا ارتطاماً أوّل عام 2005، وآخر في 2008، ثم مُنوا بانتكاسات انتفاضات مصغّرة بين إسقاط نظام طائفي وحراك النفايات وما بينهما من محاولات هروب من قلق لم يكن قد تحدّد شكله بعد. وجاءهم القلق الثلاثي متلاحقاً في زمن الانهيار عام 2019.
لكن في الدقائق الأخيرة من الفيلم، يفتح زكريا معركةً أخرى بعنوان المعركة مع الجيل السابق، جيل يتجسّد بوالده يحيى جابر. وهنا تبرز ثنائية جديدة. جيل زكريا الذي حُمّل مسؤولية أن يكون «جيل التغيير»، وجيل يحيى الذي مُني بالانتكاسات القاصمة من حروب أهلية وميليشيات ومعابر وتقسيم وانهيارات مالية سابقة. وإن كان بين الجيلَين أجيال أخرى، فإنّ المواجهة ضرورية، وحتمية. جيل حرب أهلية مشى مع المتاريس وانخرط فيها. مشى مع صفقة فكفكة المتاريس وتوحيد الدولة. مشى مع كذبة إعادة إعمار وإعادة تقسيم للثروة والمصالح. جيل اختزن كل ما سبقه من مآسٍ وانكسارات في السياسة والاقتصاد، في الداخل والخارج. أضاف إليها ملحاً على شكل تجربة تغيير انتهت بتعميم سفك الدماء وتحليله، وأورثها لمن بعده. وصل إلى جيل زكريا، على شكل قالب لا بدّ من الخروج منه. فخرج جيل زكريا من الصورة كلّها، من خلال طريق المطار.
اختار زكريا أن تكون هذه المعركةُ معركةً من طرف واحد، وربما هو على حقّ. لا نريد سماع مآسي الجيل الذي سبقنا، ولا تبريراته. مللنا منها. تماماً كما سيملّ «جيل التغيير» القادم من سماع مآسينا، بعد حين. لكن إن كان من خلاصة لا بد منها، فإنّ قلقنا البيروتي عابر للأجيال. هو القلق نفسه، يتوارث، ولو اختلفت تفاصيله قليلاً. فيُصبح الصراع بين الجيلَين أشبه بمضيعة للوقت، لكنّه واقع. ثمة من يجب أن يتحمّل مسؤولية ما حصل، طالما أنّ المسؤولين المباشرين عن الأزمات السابقة والحالية واللاحقة ما زالوا مفلتين من العقاب. وسيبقى هذا الصراع متاحاً، لأنّ مصادره لم تتزحزح بعد. لماذا؟ لأنه ببساطة، كما ورد في الفيلم، النظام كتير قوي وما بيعتمد على حكومة. لأنه نظام لا يعتمد على أيّ من المعادلات المنطقية. لا على حكومة، ولا على رئيس أو مجلس منتخب أو قانون أو قضاء أو مؤسسات أو عسكر أو مصرف. يعتمد على كلّ ما سبق معاً. لأنه نظام برؤوس كثيرة. رأس على شكل دولار ومصرف، آخر على شكل ميليشيا، ثالث على شكل ميثاقية، رابع على شكل هلال يعانق صليباً. رؤوس قد تتناحر في ما بينها، لكنها عصيّة على عضّ بعضها بعضاً.
جيل زكريا يترك بيروت. جيل يحيى تأخّر على ذلك. ولهذا كلّه، يبدو خيار الطائرة أفضل وأسهل وأصدق، ومنطقيّاً أكثر من خيار التابوت.