نقد ثورة تشرين
هلال شومان

كسخت النموذج

25 تشرين الأول 2019

تصدّرت هذه العبارة إحدى اليافطات المرفوعة في ساحات التظاهر اللبنانية، ورُشَّت على الجدران. تحيل الجملة إلى فكرة لبنان الكيان كنموذج عيش واجتماع واقتصاد، وخروجها بهذه الطريقة وبهذا المسلك اللفظي يدلِّل على فكرة سقوط النموذج، وشرحه خارج التلطيفات هو: كسخت نموذج الانتفاع المالي.


منذ خروج لبنان من الحرب الأهلية وعلى فترتين امتدت كل منهما لما يقرب الـ13/ 14 عامًا، ما قبل خروج الجيش السوري وما بعده، أرسيَ نموذج من الانتفاع المالي بين أحزاب السلطة وأهلها. سمّي هذا النظام زورًا نظام تعايش، وأقنعنا أنفسنا زورًا أننا نخوض نظام عيشنا، وأننا نقاوم في خوضنا اليومي. كان الانتفاع سمة الفترة التي أطلق عليها في الإعلام فترة السلم الأهلي. العبارات التي كانت تستخدَم عند كل اعتراض، كانت تهدِّد بالعودة إلى ما قبل نظام التعايش هذا. قبل 2005 وبعدها، لم تكن الخضّات لتمسّ نظام التعايش هذا. حتى أكثر اللحظات استقطابًا كانت تنتهي لجلسات من تبادل الانتفاعات بين الأقطاب وجماعاتها.

لكن ما الذي حدث في 17 تشرين؟ وكيف اهتزَّ نظام الانتفاع المالي هذا؟

على دفعات، بعد التسوية التي بلغت ذروتها بوصول ميشال عون وأنصاره إلى الحكم، جرت المقامرة بنظام الانتفاع المالي لصالح قلة من الناس. وعلى دفعات، انتهى الأمر ليصير: الكل في السلطة، ولا انتفاع جماعاتيًا. زاد من هذا الشعور سقوط توقعات عالية لأداء العهد، واستنفاد حروب الخارج والأحياء لغايتها. ضمرت الأموال على إيقاع انكشاف وضغوطات خارجية وداخلية، فقام النظام بواجهته الخارجية بمحاولة لاستقطاب المهاجرين عبر شلح لفظ الانتشار عليهم. أنتم منتشرون. أنتم قوة لبنان المالية في الخارج، والأجدى أنَّ تصيروا قوة لبنان الخارجية داخله.

هذه المحاولة لاستحضار الأموال والأصوات عبر الفكرة الكيانية، بقيت في إطارها الطائفي، بل في إطار عصابي ضمن طائفة واحدة، فلم تؤدِّ غرضها، ولم تقدِّم شيئًا يذكَر في ظل ركود سياسي واقتصادي لا يطمئن أي مستثمر ليثق في «انتشاره». المال لا يعترف بفخرية الكيانية ولا بالجينات التي انتشرت هاربة في العالم. لم تعد عبارة ونبني أنا نشأ لبنانا للشاعر سعيد عقل صالحة. اللبنانيون يرودون الأرض هربًا فحسب. وما هو أسوأ من هذا كله أنَّ حملات اللحاق بالانتشار حدثت على إيقاع غبي في جشعه، وجشع في غبائه، ولا يجهد حتى لتغطية أفعاله وصولًا إلى المقامرة بأمن اللبنانيين الاقتصادي.

تلك كانت الذروة: مدّخرات الانتفاع المالي في خطر.

وهؤلاء، معدومو الموهبة، الحاكمون، محدثو النعمة، مستعدّون للتلاعب بمدّخرات الناس. الوصول لهذه الحدود سلَّط الضوء بلا قصد على موقع المصارف في دولة ما بعد الحرب، موقعها ماليًا وسياسيًا. تمثُّل هذه المصارف في ذهن اللبنانيين وتعاملهم معها النصب المادي الفعلي الذي وصلت إليه الجماعات الحاكمة. فهي التي توقِّع على ضرائب الدولة، وتمنع زيادة الرواتب، وتجبي أرباحًا مهولة في إدانة الدولة، وتشارك اللبنانيين ملكية بيوتهم، وتهجّرهم من المدن نحو الأطراف، وتمنع عبر ممثّليها في الحكم أي ضرائب تمسّ أرباحها.


«كسخت النموذج» تقول العبارة، فتصرِّح بحقيقة وتتخذ موقفًا. لقد أنتج سقوط النموذج لحظة وعي متمدِّدة فبانت الهوة الطبقية الرهيبة العابرة للطوائف. البطالة عابرة للطوائف. إفراغ البلد من شبابه عابر للطوائف. الحرمان الاجتماعي والخدمات عابر للطوائف. القمامة في الشوارع تصل طائفة بأخرى. المحرقة الموعودة كانت أيضًا لتصل رئة بأخرى، والسرطان واحد. حتى الاستدعاء لمكاتب التحقيق واحد، والعبارات المستدعى عنها نفسها. يبدو الأمر للحظة مجازًا، لكنه بالغ الراهنية وبالغ المادية. إنَّ السقوط مجازًا وماديةً ولغةً أضاء على هذا كله. ولم يحتج الأمر إلا لبضعة تراكمات في بضعة سنوات ولجماعات تتنافس في الغباء وقتل الوقت ومقامرة غير محسوبة بمصير من تبقوا في البلد لنشهد انتفاضة عابرة للطوائف. وإذا كانت دافع لحظات سابقة هو الخوف على الحياة وانتهى بالتسوية الأمنية، فإن دافع هذه اللحظة هو سقوط نظام العيش. فأي حياة بلا نظام عيش؟ لقد سقط النموذج، وينبغي لنا الآن أن نحمي هذا السقوط.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر