روى الرجل كيف حبس دموعه وهو يوقّع.
لم يكن قد مضى على استقلال جامايكا إلا عقد تقريبًا، حين بدأت ترزح تحت ارتفاع أسعار النفط منتصف السبعينات. كان لهذا الارتفاع آثاره التدميريّة على أحلام الدولة الفتيّة بالتنمية ورفع الظلم التاريخيّ عن الجامايكيّين الأفارقة الذين يشكّلون غالبيّة السكّان.
ارتدى مايكل مانلي، رئيس الوزراء حينها، ربطة عنق على غير عادته، وتوجّه إلى صندوق النقد الدولي طالبًا إقراضه المال، بعدما ضاقت أمامه مصادر التمويل الأخرى. لم يكن خيار الصندوق محبَّذًا لدى مانلي اليساريّ الإصلاحيّ، لكنّه راهن على قدرته على التفاوض، خصوصاً وأنّ وصفات الصندوق لم تكن مُعَلّبة بعد.
كانت عينا مانلي على استكمال مشروعه في تأمين السكن والتعليم والطبابة للجميع، وكانت أعيُن الصندوق على أولويّة السداد للدائنين، واعتماد التقشّف الأقصى في الموازنات العامّة لتحقيق ذلك. كان مانلي يحلم بجامايكا على المدى الطويل، والصندوق ينظر إلى حسابات الدفاتر وآجالها القصيرة.
في النهاية، رضخ رئيس الوزراء، ووقّع. وقّع والدموع في عينيْه. وحين انتهى عرض الفيلم، كانت الدموع في أعيُنِنا، كمشاهدين، أيضًا. تسعون دقيقةً تروي عن بلاد تغيّر كلّ ما فيها. ماتتْ من أجل صندوق.
تذكّرتُ مانلي حين نشر رئيس الوزراء اللبناني، على موقعه على تويتر، شريط فيديو قصيرًا يعلن فيه توقيعه ووزير المال طلب مساعدة صندوق النقد الدولي. بدا البروفيسور حسان دياب ممتلئًا بنفسه كالعادة، وسعيدًا في إعلانه الخطوة التي رآها بدايةً لنهاية «المسار الانحداري». لم يبدُ مهمومًا بالموازنات التقشّفية التي سيوقّعها، ولم تدُر في رأسه حتمًا مشاهد من جامايكا البعيدة، بل بدا وكأنّه مشغولٌ بصورة عبد الناصر وهو يعلن تأميم قناة السويس.
والواقع أنّ دياب سيخوض مفاوضاتٍ سهلة مع صندوق النقد. فهو أعطى الصندوق في خطّته كلّ شيء، قبل التفاوض حتّى. كأنّ المطلوب من الحكومة والخطّة ليس مساعدة اللبنانيّين، لا سيّما الأكثر فقرًا وهشاشةً بينهم، للخروج من الأزمة بأقلّ خسائر ممكنة، بل المطلوب إعداد خطّةٍ تحوز إعجاب مندوبي الصندوق الذين أُعطُوا سلفًا ما تتضمّنه وصفاتهم الجاهزة. وما التعديلات الأخيرة التي أدخلتها الحكومة على مسوّدتها السابقة إلا إزالة كلّ التباساتٍ حول هذا الشأن.
فبدلاً من تحرير سعر الصرف التدريجي، تبدأ الخطّة المعدَّلة رأسًا بتحرير رسميّ لسعر الصرف ليبلغ الدولار 3500 ليرة. وما كان يمكن لذلك أن يحصل إلا بعد توزيع أدوار ضمنيّ بين رئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان.
كما ذُكرت الخصخصة، هذه المرّة، باسمها الصريح وليس بالتورية كما جاء في المسوّدة الأولى والبيان الوزاري اللذين تحدّثا عن «تشركة» و«إشراك القطاع الخاص». يضاف ذلك إلى إحصاء أراضي الدولة وإبداء الاستعداد لبيع قسم منها على الأقلّ.
أمّا سائر بنود الوصفة الجاهزة، فقد سُلِّم بها أصلاً في المسوّدة السابقة: تحجيم القطاع العام، وزيادة الضريبة على القيمة المضافة، وتحرير سعر البنزين، ورفع الدعم عن الكهرباء.
منذ إعلان تعليق دفع اليوروبوند، عرف الجميع أنّ الخيار الوحيد المتاح بات هو اللجوء إلى صندوق النقد. حتّى حزب الله أدرك ألا خيار آخر، فأعطى مبكرًا الضوء الأخضر للتفاوض مع الصندوق.
لكنّ المرعب هو أن يتمّ هذا الخضوع المسبق والاحتفاليّ لوصفة الصندوق الجاهزة في ظلّ صرف العمّال والموظّفين، وخسارة الناس لثلثَيْ قدرتهم الشرائيّة، وخفض الرواتب إلى النصف، فيما تغيب عن خطّة الحكومة الآثار الاجتماعيّة للانهيار الاقتصادي على الطبقات الفقيرة والمتوسّطة. كأنّ الحكومة اللبنانية في خطّتها باتت نسخةً معدّلةً عن خبراء الصندوق الذين لا يرون في الاقتصاد إلا حسابات دفتريّة ينبغي مواءمتها.
من نكد الدهر أنّه كان علينا انتظار ردّ جمعية المصارف على الخطّة حتّى نقرأ عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الهشّ في لبنان، وعن أولويّة الاحتفاظ بالوظائف، وتخفيف حدّة الفقر، والحدّ من عدم المساواة.
لكنّ حسّان دياب ليس وحده المقامر بمعيشة الناس. ففي حكومة التكنوقراط الكثير من الخير والبركة. فها هو وزير الصناعة المنتدب من حزب الله، يبشّرنا بعد إقرار الخطّة مباشرةً، بأنّ سعر الصرف ثابتٌ اليوم، وغدًا، وبعد غد. كاد يضيف: وإلى ما بعد بعد حيفا.