طوال الأسابيع الماضية، تطوّعت جبهة من الإعلاميّين والسياسيين وخبراء الاقتصاد للتبشير بصندوق النقد كملاذ أخير. فالصندوق، بحسب هؤلاء، يملك القدرة على تأمين التمويل المطلوب للبنان بالعملة الصعبة، وعلى فرض شروط ضمن خطة «إنقاذ» تشكّل ضمانة للدائنين الباحثين عن استعادة الدولة لملاءتها الائتمانيّة، ولو على حساب الأولويّات المعيشيّة لعموم اللبنانيّين. وعلى أي حال، لم يكن وزير الماليّة، المعني الأوّل بالموضوع، بعيداً من هذه الأجواء، حين تعهّد مؤخّراً بالتزام لبنان توصيات الصندوق ضمن الخطّة الاقتصاديّة التي يتمّ العمل عليها.
وحده حزب الله حافظ على موقف ملتبس إزاء الموضوع، مقرناً موافقته على مشورة الصندوق برفض هيمنته. وهذا الالتباس كان بالظبط ما راهن عليه محبّو الحزب من الواقفين على يسار سياسات الحكومة الاقتصاديّة، حين قاموا بتسويق هذا الموقف على أنّه بادرة تقدميّة لقيادة مشروع مناهض للتوجّهات المجحفة بحقّ محدودي الدخل التي يفرضها الصندوق عادةً. أمّا بعض المعارضين للحزب الواقفين على اليمين اقتصاديّاً، فذهبوا للتصويب عليه من بوّابة عرقلته لفرصة الإنقاذ الأخيرة، المتمثّلة ببرامج قروض صندوق النقد.
وقع موقف المدافعين والمنتقدين لما بدا أنّه تحفُّظ من قبل الحزب في الفخّ نفسه. فافترض كلاهما أنّ الحزب جادّ فعلاً في عرقلته للشروط والسياسات التي يمكن أن يتمّ فرضها بالتوازي مع تدخّل الصندوق، متناسين أنّ الالتزام بالخطّة التي يجري العمل عليها مع صندوق النقد هو شرط التمويل من الصندوق والداعمين الدوليين في المستقبل، وستحدد الخطّة منذ الآن حجم التمويل المطلوب. وبالتالي، لا معنى لرفض الهيمنة إذا انخرط لبنان منذ الآن في مسار صياغة خطّة ستؤدّي للهيمنة عند الطلب المحتوم للدعم المالي.
أكّد خطاب نصر الله بالأمس كلّ ذلك. فقد أعطى الخطاب الضوء الأخضر للحكومة للمضيّ قدماً في صياغتها الخطّة الاقتصاديّة مع صندوق النقد تحت عنوان المشورة، لا بل استبق نصر الله المرحلة التي ستلي صياغة الخطّة هذه مع تأكيده أنّ الحزب لا يرفض الدخول في مرحلة الدعم المالي وفقاً للشروط التي يضعها الصندوق. كما حدّد معايير فضفاضة لقبول هذه الشروط من قبيل عدم مخالفة الدستور ومطابقة هذه الشروط للمصلحة الوطنيّة اللبنانيّة.
يدرك حزب الله جيّداً أنّه أمام خياريْن لا ثالث لهما: إمّا البحث عن نموذج اقتصادي بديل مع ما يعنيه ذلك من تبدّل لطبيعة المستفيدين من الاقتصاد اللبناني، وإمّا البحث عن جرعات دعم من خلال قروض مقرونة بشروط تعيد الحياة للنموذج الحالي. بين الخياريْن، ذهب حزب الله إلى الخيار الأقلّ كلفةً عليه وعلى التوازنات السياسيّة التي يحرص على إدارتها بذكاء. وبهذا المعنى، وقبل الدخول في نوعيّة الشروط التي سيفرضها صندوق النقد، فإنّ النتيجة الموجعة الأولى لرُزَم قروض الصندوق ستكون الحفاظ على النموذج الاقتصادي القائم بدل البحث عن تغييرات أكثر جذريّة.
أمّا رفض نصر الله للزيادة الفاحشة في الضريبة على القيمة المضافة، فنابع من سعي الحزب إلى أن لا تبلغ شروط الصندوق الحدّ الذي يؤدّي إلى انفجار الأمور شعبياً إلى درجة لا يمكن إستيعابها، وهذا تحديداً ما أشار إليه نصر الله في تعليله لرفضه هذه الزيادة.
لكنّ نصر الله لم يأتِ على ذكر الكثير من الشروط المتوقّعة والتي هناك من يحاول تسويقها محليّاً من باب ملاءمتها للمصلحة الوطنيّة، مثل الخصخصة وتقليص شبكات الأمن الاجتماعي وزيادة أشكال أخرى من الضرائب وتقليص جميع الأدوار التي يقوم بها القطاع العام، وصولاً إلى رفع أشكال مختلفة من الدعم، وكل هذه توجّهات متوقّعة في أي خطة يتمّ العمل عليها مع صندوق النقد.
باختصار، الذهاب نحو صندوق النقد هو خيار متكامل في توجهاته الاقتصاديّة، ولا يمكن للبنان التعامل بانتقائيّة مع هذه التوجّهات عبر «أخذ الدعم ورفض الهيمنة». وحين أعطى نصر الله الضوء الأخضر للحكومة للذهاب نحو الصندوق، فهو أسقط كلّ الرهانات على دور تقدّمي ادّعى البعض أنّ حزب الله سيلعبه على مستوى السياسات الاقتصاديّة والاجتماعية.