نص إيطاليا
رشا عزب

روما، نَصّ مفتوح ومئة مخبأ

16 تموز 2023

عن فتية مصريّين عالقين في مخازن الخضار وأفران البيتزا،
عن مدينة سفليّة تعيش بغضب تحت مدينة السياحة الشهيرة.


تمتدّ العلاقة بيننا أبعد من صورة النوافير التي تتوسّط الميادين الفسيحة. علاقة تتجاوز طول الأعمدة الرومانية المستقرّة في السماء، وتتجذّر كلّما ابتعدنا عن مركز هذه المدينة. مشينا كثيراً بجوار نهر التيفري واخترقنا كل الحارات الصغيرة في الحي القديم السياحي تراستيفري، مركز فنون المدينة ومهبط كاميرات السينما التي سحرتنا قديماً ورسمت خيالنا عن الرومانسية الإيطالية المتوهّمة.

صور الحياة النابضة في كل رصيف. لا نحتاج إلى جهد لوصف علاقة السكّان الأصليين بالطعام القومي، هو مفتاح اللهو والوجبات الكثيرة التي تحمل أسماء عدة، خاصّةً وجبات ما قبل العشاء، الأكثر إثارةً في محتواها، تفتح باب الطعام والشراب والسهر، الثَّمَل المنقوص، ونصف المعدة الخالي في انتظار رمّانة الميزان، طبق السكوندو، وهو طبق البروتين، الأعلى سعراً في بلاد الدقيق والمعجّنات. 

في أوّل يوم بعد فراق حزين وقَلِق دامَ تسع سنوات، ذهبنا إلى نفس المكان الذي اختبرتُ فيه كل نقاط ضعفي، عشت فيه لأيّامٍ في لحظة شتات خاصّة قبل أن أقرّر العودة النهائية إلى مصر في نهاية عام 2014. كان مكاناً محتلّاً، يحمل ماضي مبنى إداري سوفياتيّ التصميم، سلالمه مظلمة وغرفه ضيّقة، أوسع مساحة فيه تقع على السطح الذي يطلّ على عمارات حيّ فقير. كانت السماء بنفسجية، مستعدّة لنزول الأمطار، ومتهيّئة تماماً للبكاء الحار. لم أكن أحمل ذات الحزن الصغير المتعجّل للعودة لبلادي، صار لديّ حزني الكبير الذي لا يهاب المسافة فحسب، بل يهاب أيضاً التبخّر السريع لسعادة العودة ولقاء الأحباب. فبعد تسع سنوات تحت حكم الديكتاتورية، صارت البلاد حفرة كبيرة، يتّسع قطرها وعمقها كل يوم.

روما التي أعرفها، هي هذا النصّ المفتوح بين السنوات التسع الأخيرة من حياتي، أعود إليها مع كتابي الأوّل وفيلمي الأوّل، روما هي الحَيوات المتنقّلة بين عدد من الأماكن المحتلة من قبل مشاغبين ومشاغبات ضدّ نظامٍ اجتماعي لا يوفّر السكن ولا العمل، ويطارد اللاجئين بكل السبل القاتلة. روما كحركة نضالية لديها شوارع ومناطق نفوذ وتجمّعات ثقافية متمرّدة. يسيطر السياسيّون على الإعلام الإيطالي، تسيطر حركة الشغب على جدران شوارع شرق وجنوب روما، صحافة متجددة، تُسمَع أصواتها على مداخل المدينة وفي كل الفراغات المحتملة. فنّانون يملكون بعضاً من شوارعهم رغم سطوة حكومات اليمين، وينشئون قلعتهم الجديدة في حصن عسكري قديم، ينتمي للقرن التاسع عشر وكان من بين 15 حصناً لحماية روما، لكنّه الآن، أقدم مكان محتل في تاريخ إيطاليا. تحتفل الحركة بمرور 35 عاماً على الاستيلاء على «الفورتي» وتحويله إلى ملتقى حرّ للحوارات السياسية والثقافية والفنية والترفيهية، يتفانى في دعم المُلوَّنين واللاجئين وفقراء المدينة بشكلٍ يومي؛ ومرّتَيْن في العام، يفتح «الفورتي» أبواب الخنادق المئة للزيارة، مرّة في وقت فتح النبيذ، ومرة لتنظيم مهرجان الفنون البصرية الذي حضرتُ نسخته الأخيرة، وشهد على مشاركة ما يزيد على 600 فنانة وفنان. لا تزال روما عاصمةً للفنون البصرية، الغرام المطلق بالتصوير والتجسيد جزء من تعريف هذه البلاد لنفسها، وإن اختلفت أهدافه. تتنافس جماليات جدران الشوارع والأماكن المحتلة الصارخة مع جدران الكنائس والبازليك والفن الملتزم، لا جدار صامتاً في هذه المدينة، حتى الخنادق.

السور وبوابة سان جيوفاني

يضمّ الفورتي مئة خندق تحت الأرض، كان قد صُمّم لحماية سكان روما من الغارات الحربية. ومن هذه المخابئ، اشتقّ اسم الحي «Centocelle»، حيّ الشغَب والمقاومة الاجتماعية. 

روما هنا بلا علامات تنصيص ولا أقواس، مجرّد وجبات مفتوحة على بعضها بعضاً، وجلسات طعام وشراب طويلة قبل السياسة وبعدها وأثناءها، وانتشاء دائم بقوميّة قهرت القومية الصينية وأجبَرت مطاعمها على تسمية النودلز اسباجيتي والدمبلنج الشهير رافيولي والبانكيك بيتزا.

إن كانت للمدن روائح، نجد أنّ روما تغرق في رائحة خبيز الدقيق الأبيض، وحده يسيطر على الهواء، لكن الغرباء يشمّون المدن أكثر من أبنائها، يتنفّسون الهواء الغريب خارج أجسامهم لفترة من الوقت. 
شوارع هذه المدينة، تخبرنا أيضاً أنّنا كثيرون جداً هنا، الكلمات المصرية تحوم وتكبس على أذني في كل تَمشية تقريباً، اللهجات القروية الواضحة، وفتية عالقون بين أفران البيتزا ومستودعات الخضار، أتوا على ظهر مركبٍ آتٍ من عواصف البحر الأبيض الواسع الحزين.


عندما رأيت شاباً وفتاة يحملان أكواب القهوة السريعة في المترو، بدا المشهد غريباً على واقع الحياة اليومية في هذه المدينة. فالكل يذهب للكافيه أو البار لاحتساء القهوة ولو لدقائق، لا يعرفون معنى القهوة سريعة التحضير، والشراب أثناء السير أو ركوب المواصلات. لا شيء يستحقّ أن تؤخَذ القهوة على عجل، ولا شيء يستحق أن تأكل سندوتش أو قطعة بيتزا سريعة على عجل. الوقت يتقطّر مثل القهوة، ومواعيد الملذّات قائمة بذاتها، ولها حدود ومواصفات. المتعة تخترق يوم العمل العادي ولا تنتظر نهايات الأسبوع فحسب، أمّا نهاية الأسبوع فهي حفلة واسعة تستمرّ ليلَتين وثلاثة أيام، تفتح لها مواصلات المدينة لما بعد المواعيد اليومية، وفي داخل الأتوبيس الليلي، ينكشف وجه المدينة الأكثر هشاشةً.

السيارات تملكها الطبقة الوسطى، رغم أنّ أغلى سيارة هنا، أرخص من أسوأ سيارة في بلادنا التي تعيش على نهب شعبها من الجمارك والضرائب، ولكن من يستطيعون دفع فاتورة البنزين، يملكون معاشاً متوسّطاً، ولن ينضمّوا بأي حال لجمهور الأتوبيس الليلي أو عربات المترو المتأخّرة. 
يشاركنا في الأتوبيس الليلي الملوَّنون العائدون من أعمالهم الشاقة، الإيطاليون محدودو الدخل، وهم كثر أيضاً، والممنوعون من القيادة تحت تأثير الخمور، والسائحون المحتفلون الذين لا يتحمّلون فاتورة التاكسي الخاص. روما تضمّ ملايين من كل هذه الأنواع، يلتقون في ضجرٍ صاخب، تفوح منه رائحة نهاية الليل، أجساد مترنّحة لأسباب مختلفة، نهاية الحفلة ونهاية العمل المضني. 

في مناطق شرق روما، وهي مستقرّ منازل متوسّطة ومتواضعة التكلفة يعيش فيها إيطاليون ملوَّنون وعرب، من الصعب ألّا تسمع لهجة مصرية أو عربية. كما تنتشر الأسواق الصغيرة للهنود والبنغلادشيين والمغاربة، يبيعون منتجات أوطانهم الفريدة، ويندمجون بحذر، كلّهم يعملون على مدار الساعة، لا يشاركون الطليان حفلات الطعام المنعقدة على مدار اليوم، ولا يشتركون في صخب نهاية الأسبوع الذي يبدأ من صباح الجمعة حتى انتصاف نهار الأحد.   
بجوار السور الذي بناه الامبراطور أورليان لحماية روما من هجمات البربر، تندَسّ بعض الأحياء الفقيرة، تنمو حيوات اللاجئين والعمّال الأجانب، يقف بقايا السور، كتذكار قديم يشقّ الجسد الممتَدّ الحديث للمدينة. وقفتُ كثيرًا أسأل: ما هي المدينة التي كان يحميها هذا السور الضخم؟ كلاهما صار روما! وكلاهما حيّ وجميل ومتهالك!

ما تبقّى من السور الأورلياني

فكرة الأسوار واضحة في مدينتي، القاهرة. خارج الأسوار توجد مدن الموتى التي صارت الآن مدناً للموتى الأحياء أيضاً. كان النيل يفصل دائماً بين البر الشرقي والغربي، الشرقي للحياة اليومية والغربي للخلود. أما هنا، فالسور يحمي أغلب البازليك المكوّنة لدولة الفاتيكان، سان بيترو، سان جيوفاني أو سان لورانزو. ذاب السور في المدينة لدرجة أنّك قد تجد في لحظةٍ قطعةً صغيرةً من سور محاطةً بالمباني السكنية. الأراضي المنبسطة ووسائل المواصلات التي باتت تمرّ عبر بوابات السور، وانشطار الحياة حول كل أسوار المدينة، تجعل منها أكذوبة، إذ تتنصر الحياة في نهاية الأمر، وتنبت الأشجار داخل السور، وتشقّه النباتات الفطرية بعناد، بينما يحاول الناس دائماً تفتيت الأسوار بطريقتهم، ويجعلونها مقرّات للجريمة واللهو ومقاومة القانون. تذكّرت على الفور، يوم بدأت الدولة المصرية في بناء العاصمة الإدارية الجديدة، بالوعة تغرق فيها مليارات القروض، وهي بلا شك بوابة إفلاس مصر القادم. كانت البداية في بناء السور الاسمنتي الشاهق للمدينة في صحراء صفراء، لم تكن البداية مع زراعة أشجار أو بناء البيوت، في البدء كان السور! 
خارج هذه الأسوار، تشكّلت حركة تمرّد اجتماعية واسعة لاحتلال الأماكن الخالية في روما مع نهاية الستينات، وبعد الانتفاضات الطلابية في أنحاء أوروبا. ترصد المشاهد المصوّرة الأولى لهذه الحركة، تحرّك المئات من الفقراء الإيطاليّين الذين يعيشون في عشش الصفيح، ينطلقون لاحتلال شقق الإسكان الاجتماعي الخالية التي من المُفترض أن يحصلوا عليها من الدولة، بمشاركة عدد من النشطاء اليساريّين والأناركيين. كان أغلب هؤلاء المواطنين قد تمّ تهجيرهم من أحيائهم القديمة وسط روما عندما جاء موسوليني إلى الحكم، بهدف تطوير المناطق التاريخية. خضع سكان المدينة الأصليون لعملية تهجير قسري، لإعادة ترسيم وجه روما الحضاري الخالي من الفقراء. الديكتاتوريات تنسخ نفس المشاريع التي تقضي بإخلاء المناطق المميّزة من الفقراء بداعي التطوير، وحذفهم بفقرهم إلى أطراف المدينة.

ومن هذه اللحظة، تشكّلت أقوى حركة احتلال للأماكن الخالية في أوروبا، وأطلقوا على هذا النوع من الأماكن «سكواط» Squat. والآن، وصل عدد الأماكن المحتلة إلى 150 سكواط، سيطروا على مئات من الشقق الخالية والمباني الإدارية القديمة والمساحات المهجورة في روما ونابولي وبولونيا، وحتّى إقليم توسكانا الذي يبدو هادئاً، وصلته حركة الاحتلال. 
تحوّلت هذه الأماكن إلى بؤر منظّمة ضد سياسات الحكومات الإيطالية المتعاقبة ضد الفاشية وذيولها الممتدّة في السياسات الإيطالية حتى الآن. تخوض الحركة عدّة معارك، معركة الحق في السكن، الحق في التجمع وتنظيم الفعاليات، الحق في فتح الحدود للاجئين وإدماجهم فى المجتمع بدلاً من قتلهم في البحر ومطاردتهم في الشوارع، دعم القضية الفلسطينية ومناهضة الكيان الصهيوني. أغلب هذه الأماكن تعلّق العلم الفلسطيني في مقرّاتها وتساند القضية بوضوح.

تنفق الحركة على نفسها ذاتياً، من خلال تنظيم الفعاليات، الحفلات الكبيرة، وبيع بعض المنتجات خلال هذه الفعاليات. تواجه الحركة أزمات كبيرة ومحاولات للحصار وإخلاء بعض الأماكن بسبب صعود اليمين الإيطالي للحكم خلال السنوات السابقة، وإصدار قوانين جديدة تُقَوّض الحركة والتجمّعات وتحاصر النشطاء في إغاثة من يركبون البحر، وهي نفس السياسات التي أدّت في النهاية لتجاهل إغاثة 750 لاجئاً ومقتل 600 شخص على مرأى ومسمع من الحكومة الايطالية واليونانية. 


المسلّات المصريّة تنتشر بقوّة في العاصمة الإيطالية، تملك روما منها أكثر ممّا تملك القاهرة.
تتوسّط المسروقات الميادين العامة، 16 مسلّةً مصرية في أنحاء إيطاليا، بينما تحتفظ القاهرة بـ6 مسلّات فقط. الغرام الهوسي لحكّام مصر وإيطاليا على مرّ العصور بأطول وأعرض تصميم هندسي، لا ينقضي، بل يتواصل و يتماهى بشكل لافت. كان المصريّون قد قدّموا معجزتهم في التصميم، شموع حجرية مضيئة تنظر للشمس وتتواصل مع طاقة الكون وتخلّد أسماء الحكّام وغزواتهم وإنجازاتهم. كانت المسلات تستقرّ بجوار مقابر الفراعنة، لكن طغاة آخرين مسَّتهم الرغبة، نقلوها بعيداً عن موطنها.
الآن تحمل هذه المسلات أسماء من سرقوها، تخليداً لعمليات السرقة المبهرة في كيفية نقل مئات الأطنان عبر النهر والبحر وصولاً إلى الضفّة الأخرى من العالم. فمثلاً، مسلّة «تحتمس الثالث»، المعروفة باسم «مسلة لاتيران»، وهي المسلة الأطول في العالم (32 متراً، لكنّها فقدت 4 أمتار من طولها مع الوقت)، ومسلّة ساحة الفاتيكان الشهيرة، القادمة من منطقة هليوبوليس بمصر الجديدة، وغير معروف حتى الآن اسم الفرعون الذي أمر ببنائها لخلوّها من الكتابة المصرية القديمة، لكن العالم يعرفها الآن باسم مسلة «كاليجولا»، الإمبراطور الروماني المتوحش المستبد الذي شهد حكمه على ممارسات غير متّزنة انتهت بقتله في إحدى الفعاليات السياسية الهامّة في روما. أمَر كاليجولا ببناء سفينة خاصة لحمل المسلة التي وصل طولها إلى 25 متراً واستقرَّت في ساحة القدّيس بطرس في الفاتيكان بعدما وضعوا الصليب على قمتها، وبقراءة صلاة مسيحية تخلّص المسلة من ماضيها وتُهيئ لها حاضراً جديداً بعد عملية سرقة بارعة.

مسلة تحتمس الثالث أو لاتيران حالياً

الهوس المعدي بنقل المسلّات من موطنها انتقل لأصحاب المسلّات أنفسهم، في مزجٍ خاص بين الكولونيالية والدكتاتورية. نقل عبد الناصر مسلّة رمسيس الثاني من الشرقية إلى ضاحية الزمالك في خمسينات القرن الماضي، ونقلها السيسي مؤخّراً إلى عاصمته الساحلية الجديدة في العلمين. كما نُقِلت إحدى مسلّات رمسيس الثاني مع الكباش الأربعة من موطنهم في الكرنك إلى ميدان التحرير، رغم اعتراض المتخصصين واليونسكو، ترسيخاً لعهدٍ جديد نظيف من الغضب والاحتجاجات للميدان الشهير. 

تقف مسلّاتنا في ميادين روما ويمرّ أصحابها من حولها كالبرق، ومن الأفضل أن لا تلاحظهم عيون الشرطة الإيطالية التي تلتقط السود والملوّنين القادمين عبر قوارب هالكة، لا ينظرون قطعاً للمسلات، ولا يعيرونها اهتماماً. الماضي الذي يعانق سماء روما لم يصنع لهم الحاضر المنتظر، يتحرّكون في ظلام العاصمة وأطرافها ليبعدوا عن ميادينها الكبيرة. يتمركزون في مناطق شرق روما مثل منطقة centocelle وهي المنطقة التي حملت اسم مخابئ الفورتي، مستقَرّ الطبقات الشعبية الإيطالية والمشاغبين ضد سياسات الحكم والمتعاطفين مع اللاجئين والمطارَدين.  

وفي هذه الأحياء المنحوتة مثل مخابئ الفورتي شكلاً ومعنى، يمكننا بسهولة أن نسمع أحد الفتية المصريين يتحدث إلى صديقه عبر الهاتف، يطلب منه مقابلة عاجلة لكنّه لا يعرف ماذا يركب، يتوسّل إليه أن يقابله لأنّه لا يعرف ماذا يفعل بعدما أنهى مناوبته في العمل، يسأله بلَوعة: طب هتخلص امتى، ممكن استناك جنب الشغل بس فكّرني اركب أي اتوبيس؟ وفي نفس الحي، يتطاير السباب المصري من مدير محل البيتزا لأحد الفتية الواقفين على الباب الأمامي للمحل في ساعات الظهيرة، هدنة ما بين الوجبات: مش قلتلك متخرجش من الفرن، كل شوية هقعد اناديك تدخل، هتجيب لروحك بلوة، اتنيّل خش جوه! 
وفي منطقة البنيتو، إحدى مناطق النفوذ الثقافي اليساري والأناركي في روما، تنتشر المكتبات النسوية والعربية والكردية كما تموج المنطقة بعمالة الفتية المصريين في مستودعات الخضروات والفاكهة، يتعاملون بحذر وريبة إذا اكتشفوا أن الشارين مصريون أو عرب.

تشهد مراكز الهجرة في إيطاليا خلال العامين الماضيين على واحدة من انجازات الحكم الحالي في مصر، هجرة نوعية للأطفال القُصَّر المصريين دون ذويهم، يحملونهم على قوارب تنطلق من ليبيا بعد رحلة تهريب برية من الحدود المصرية، يتم تخزين الأطفال في مقرات غير آدمية في طرابلس أو طبرق حتى تحين لحظة السفر، تستمرّ فترة التخزين لشهور، وأحياناً لسنوات. يعبر الأطفال المصريون البحر الأبيض المتوسط وحدهم، يبتلع البحر بعضهم ويصل من ينجو لتبدأ رحلة هروب أخرى داخل هذه المدينة. تقول المنظّمة الدولية للهجرة إنّ الأعوام الأخيرة شهدت على موجة هجرة جديدة للمصريين، ورصدت 117,156 مهاجراً مصرياً في ليبيا بين كانون الأوّل/ديسمبر 2021 وكانون الثاني/يناير 2022، وإنّ المواطنين المصريين ثاني أكبر عدد من المهاجرين في ليبيا، ويمثّلون 18٪ من إجمالي المهاجرين.

الدعاية السياسية لفتح الحدود في أحياء شرق روما

الموجة الأخيرة من الهجرة، تغيّر قوامها عن سابقاتها، وطرق العبور والانطلاق تحدّدها مافيات مشتركة بين عدة دول، وأسبابها مكشوفة للعالم تماماً: موجة تضخّم غير مسبوقة وانهيار للجنيه المصري وقروض ذهبت لمشاريع فاشلة وبناء ترسانة استبداد وسجون على طريقة سجون الاحتلال الصهيوني.

لا يمكن أن تنكرنا هذه الأرض، كما لا يمكن أن ينكرنا هذا البحر الذي تحوّل إلى مقبرة جماعية مفتوحة للقادمين من الشرق بفضل السياسات الأوروبية الجديدة، وبسبب الدعم الكبير الذي يحصل عليه ديكتاتوريّو الشرق الأوسط للبقاء في الحكم وقتل المعارضة مقابل إبعاد مواطنيهم الهاربين الفقراء عن الجنّة الأوروبية المتخيّلة. كان الحلّ الذي أوجَدته تلك القوانين، أن يموت المصريّون والسوريّون والتونسيّون بين الشاطئَين، قبل أن يقتربوا من الحدود البحرية الإيطالية المقدسة.

كلام المصريين فى شوارع روما 

يخرجون من المسامّ المفتوحة في العاصمة الإيطالية، السمّاعات في آذانهم بشكلٍ دائم، عزلة صغيرة يومية تولد من العزلة الكبيرة، ينجرفون في نهاية المساء لمقابلة السماسرة ومن يستطيعون النزول إلى البلاد لإرسال الأموال والهدايا، ينصرفون عمّا يحدث حولهم من صخب الحياة الإيطالية، يتحدّثون إلى الشاشات التي يتسرّب منها صوت طفل رضيع أو امرأة تحكي تفاصيل يومها ببطء، أو يندمجون في خلافٍ عائليٍّ بعيد. لعلَّ التفاصيل تغمر العزلة وتبلع المسافة.
تطفح أرصفة روما ومواصلاتها الليلية بملامح الملتاعين المحرومين من بلادي. تأبى أن تتركني في غفوتي، أمارس بعض الأنشطة الثقافية والفنية وأدّعي قليلاً أنّني زائرة خفيفة. لستُ زائرة خفيفة، أعرف. كيف أحصل على قدمٍ خفيفة في عاصمة ثقيلة؟ كيف أنجو ولا تنغرس خطوتي فيكِ؟ 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود
الجيش اللبناني تسلّم 3 مواقع عسكرية لمنظّمات فلسطينيّة دعمها الأسد
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
21-12-2024
تقرير
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة