تحليل ثورة تشرين
طارق أبي سمرا

ماذا تعني مُحاربة الفساد؟

16 تشرين الثاني 2019

في خطابه الأخير، أعلَمنا حسن نصر الله بأنّنا جميعنا – مُتظاهرين وغير مُتظاهرين، حُكّاماً ومحكومين – مُتَّفِقون أقلّه على مطلبٍ واحد: مُحاربة الفساد. وقد كان صائباً في قوله، فحتّى الدُّوَل المانحة توصي حكوماتنا الفاسدة بذلك كلّما ضخَّت مالاً في دولتنا المُفلسة.

لَهوَ إجماعٌ غريبٌ بعض الشيء، وإنْ كان شكلياً (أيّ مُنافِقاً) فحسب. وتزدادُ الأمورُ غرابةً عندما نَلْحظ أنّ مُحاربةَ الفسادِ هي مطلبُ السّاسةِ كلّهم منذ سنوات مديدة، ولعلّهم أوّل مَن بادر إلى طرح هذه الفكرة فيما لم نفعل نحن سوى تلقُّفها وتكرارها.

وقد يكون سرّ هذا الإجماع هو أنّ القضاءَ على الفساد (أو على مُعظمه) مطلبٌ غير سياسيّ وذو طابعٍ أخلاقويّ، وهدفٌ مستحيلُ التحقيق عن طريق المُحاسبة القانونيّة. وتتجلّى أخلاقويّةُ المطلب ولاسياسيّتُه في الطرح الذي تداولته منظّمات المجتمع المدني، فانعقد عليه إجماعٌ شعبيّ كبير، وتبنّاه بعضُ أهل السلطة، جزئيّاً أو بكليّته: تشكيل حكومة تقنيّين مَهَرةٍ ومحايدين وذوي أخلاق حميدة.

يَفترِض هذا الطرحُ، أوّلاً، أنّ إدارة شؤون بلدٍ هي كمثل إدارة شؤون مصرفٍ أو شركةٍ تجارية (ومن هنا اللاسياسيّة)؛ وثانياً، أنّ أحد الأسباب الرئيسة للأزمة الاقتصاديّة والماليّة الحاليّة هو انعدام النزاهة لدى السَّاسة (ومن هنا الأخلاقويّة). صحيحٌ أنّ هذا الطرح هو الوحيد الذي قد يُمكن تحقيقه في الظروف الراهنة، وأنّه حلٌّ لمرحلةٍ انتقاليّة فحسب؛ لكن يبقى أنّه لا يُجيب عن سؤالَيْن جوهريّين: ما الذي سيُمَكِّن هؤلاء التقنيّين الشرفاء ذوي التمثيل الشعبي الضعيف (كي لا نقول المُنعدِم)، مِن مواجهة زعامات طائفية مُقْتَدِرَة ومُحنّكة؟ وكيف سيرضى مجلسُ النُّواب الحالي بأن تُناطَ بهذه الحكومة المُفتَرَضة مهمّةُ إجراء انتخاباتٍ نيابيّة مُبكرة، وخارج القيد الطائفي، ستأتي نتيجتُها مُعاكسةً حتماً لمصالح جُلّ النّواب الحاليين، طاردةً إيّاهم مِن المجلس إلى أبد الآبدين؟

أمّا استحالة مُحاربة الفساد مِن خلال المُحاسبة القانونيّة، فيكفي، للتأكّد منها، تخيُّل السيناريو السريالي الآتي: برّي وجنبلاط والحريري والسنيورة وميقاتي والصفدي وباسيل وجعجع وسامي الجميل ومحمد رعد (كي لا نقول نصر الله) جميعهم في السجن معاً! والأنكى أنّ الأمر لا يقتصر عليهم، إذ ينبغي أن يلحق بهم إلى الزّنازين مُعظم مَن سيعملون على مُحاسبتهم (جُلّ الجسم القضائي)، ومُعظم مَن سيعملون على توقيفهم (جُلّ قادة الأجهزة الأمنية). لكنّ المسألة لا تقف عند هذا الحدّ، إذ يُشارك في الفساد ويستفيد منه كبارُ المُستوردين والمقاولين والمصرفيين إلخ، وفسادُ هؤلاء شرعي في شطر كبير منه (الاحتكارات التجارية، والفوائد على الدين العام، والتهرّب الضريبي الشرعي الذي تُسوِّغه السياسات الضريبيّة المُجحفة بحق الطبقات الفقيرة والمتوسطة، إلخ)؛ وللفسادِ المُقَوْنَن اسمٌ هو الاستغلال.

لكن، بالرغم مِن استحالة تحقيق هذا المطلب الشعبيّ الجامع، فإنّ السلطةَ السياسيّة تبدو مُربَكةً وآخذةً بالتفكّك. وذلك لأن هذا المطلب ينطوي على بُعدٍ طبقيّ لا يمت بصلةٍ إلى المحاسبة القانونيّة، وقد يتحوّل إلى ثورةٍ صريحةٍ للطبقات الفقيرة والمتوسطة على الطبقة الأوليغارشية التي تنتمي السلطة السياسيّة إليها مُمَثِّلةً مصالحها. ولعلّ هذا البُعْد الطبقيّ هو ما أَخْرَج الناس على طوائفها.

وتَحَوُّل الانتفاضةِ ثورةً طبقيّة قد يُغيِّر جذريّاً مَطلباً آخر لا يزال غائماً حتّى الآن، وهو استرداد الأموال المنهوبة. ففي صيغته القانونيّة الحاليّة، هو أشبه بتمنّي حصولِ مُعجزةٍ يُحقِّقها سِحرُ ساحرٍ (أو حُفنةٍ مِن القُضاة) يعثر على المَخبأ السرّي الذي يحوي المليارات المسروقة، كأّن هذه الأموال مُكدَّسة في مكان واحد وما اسْثْمِرَت ولا صُرِفَت ولا انْتَقَلَت مِن حسابٍ إلى حِسابٍ، أو مِن يدٍ إلى يد. وفي حال تبدُّل تلك الصيغة القانونية، قد يُصبِح المَطلبُ هو إعادة توزيع الثروات (ومُصادرة بعضها هي مِن السُبل التي يمكن انتهاجُها) على نحوٍ يُحَقِّق قدراً أكبر مِن المُساواة. وهنا، يلوح شبح ماركس لكثيرين، فيهزأون، أو يمتعضون، أو يرتعدون. لكن، إن حصل هذا التغيير الجذريّ المُرتجى، فلا شيء يُقال لهؤلاء سوى التالي: فليهزأ، أو يمتعض، أو يرتعد مَن يشاء.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
62 شهيداً في عدوان الخميس 21 تشرين الثاني 2024
غارة إسرائيلية تقتل علي علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في دورس
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 22/11/2024
3,645 شهيداً، 15,355 جريحاً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان
حدث اليوم - الجمعة 22 تشرين الثاني 2024
22-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 22 تشرين الثاني 2024