ميزة القيامة أنّها دائماً على الأبواب. هي بطبيعتها حدثٌ ينتمي إلى الجماعي، لا تقوم مواصفاته على وضعية الفرد بل على وضعية الجماعة. ولذلك أيضاً تستفيق هذه المخيلة الوظيفية بشكل استثنائي أمام عدوى فيروسية تضع مسألة البقاء الفردي على درجة عالية من الارتباط بخيارات الجماعة. وكأنّ وظيفتها أن تستفيق لترفع التأهّب أمام الكارثة، وتعزّز فكرة وحدة المصير المشترك. ولكن أيضاً أن تطرح سؤال الثقة الجوهري في معادلة المناعة.
ترتبط مسألة المناعة، على المستوى البيولوجي، ارتباطاً حثيثاً بقضية العدالة الاجتماعية. علاوة على الكمّ الهائل من البحوث التي أثبتت تدنّي مستويات الصحة بشكل انحداري تدريجي مع حدّة الفقر، أظهرت أعمال اختصاصيّ الأوبئة ريتشارد ويلكنسون مدى ارتباط المستوى الصحي لا بالفقر بشكل مطلق فحسب، بل بالفقر النسبي. أي أن انعدام العدالة الاجتماعية مسؤول أساسي عن التدهور الصحي العام، لا الفقر المطلق فحسب.
يفسّر أستاذ علم الأعصاب روبرت سابولسكي هذه العلاقة بين العدالة الاجتماعية والصحة، بأنّ الإجهاد العصبي الناتج عن فقدان السيطرة والقدرة على التوقّع، فقدان أدوات تنفيس الإحباط، وفقدان الدعم الاجتماعي وكلّ ما يتأتّى عن انعدام الثقة بالنظام الاجتماعي وانحسار العدالة يفعّل نظام الاستجابة العصبية للضغط ممّا يتلف الصحة بطرق عديدة، يصيب الكثير منها جهاز المناعة الحيوية تحديداً.
فماذا يحلّ بمناعتنا إذا أضفنا إلى ذلك: نهب أموال الدولة، ضرب المعتصمين العزّل، سرقة الودائع، استهداف عيون المتظاهرين وتعذيبهم، أبو خشبة، زياد أسود...؟
بمعنى آخر، لا تقتصر الخطورة الصحية للنظام اللبناني الفاشل على سرطنتنا وتجويعنا وسوء تغذيتنا، بل تكمن أيضاً في كيفية توزيعه الأرباح والخسائر بين فئات المجتمع، وفي تعريضنا تاريخياً وبشكل مستمر لصدمات نفسية مرتبطة بالعنف والقتل تجعلنا كما يفسّر سابولسكي عرضة طوال حياتنا لإشكاليات صحية متأتّية عن التفعيل المفرط لآليات التعامل العصبية مع الضغط (Stress).
أمّا من جهة عمليات تدارك العدوى واحتوائها، فلن نتوقّف عند انعدام ثقتنا بقدرة الدولة مؤسّساتياً على حمايتنا، فنحن أمام حكم نثور ضدّه لأنه عجز طوال عقود عن حمايتنا من أمور أكثر بديهية.
لكن دعونا نستقرئ مواصفات مجتمعنا في ما يتعلق بمفهوم المصلحة الجماعية والاستعداد للتعاون في مواجهة الكارثة العمومية:
هناك نوعان من المجتمعات بحسب سابولسكي: الفرديّة (أميركا نموذجاً)، والجماعية (الصين نموذجاً). ونحن بطبيعة الحال لا نتحدّث هنا عن حقائق شاملة تنطبق على كل الأفراد والمساحات، بل عن آليات جماعية يرتبط فيها الجيني بالبيئي في علاقة جدلية تبلور الثقافة الجمعية التي تعيد إنتاج نفسها مجدداً في الجينات والبيئة.
يلخّص الباحث الأميركي مفهوم «رأس المال الاجتماعي» بسؤال: بأي قدر يمكنك الثقة بالآخر؟ تظهِر الدراسات أنّ المجتمعات ذات «رأس المال الاجتماعي» المتدنّي تقوْلب الأفراد بشكل مائل إلى الأنانية والفشل التعاوني. فكما يخلق الظلم الاجتماعي المعمَّم هشاشةً في المناعة البيولوجية، يستهدف أيضاً الدارات العصبية المسؤولة عن العمل التعاوني. وهنا يظهر انعدام التكافؤ أكبر مساهمة في إنتاج هذا الواقع من الفقر المطلق بحد ذاته: ليس الفقر الذي يجعلنا أقل التزاماً بالمسؤولية الجماعية، بل الشعور المكرَّس بالفقر نسبةً لمن يحيط بنا.
هناك بعدٌ آخر لهذه المسألة لا يقلّ تأثيراً هو البعد التاريخي- الثقافي المتفاعل جدلياً مع المخزون الجيني فيحوّل أحدهما الآخر. أظهرت الصين (وأيضا كوريا واليابان) في مجال الحرب على الكوفيد-19 انتماءها الواضح مسبقاً لطيف الثقافات الجمعية، حيث تحتل قيم المصلحة العامة والامتثال مركزاً أبدى من التمايز الفردي وأحقية الخصوصية. ويبدو أن زراعة الأرزّ المتطلبة لقدر كبير من التنسيق الجماعي، والتي كانت العماد الاقتصادي لتشكل المجتمعات تاريخياً في معظم شرق آسيا، لعبت دوراً أساسياً في تفضيل الثقافة الجمعية حتى على المستوى الجيني. فنرى مثلاً أنّ شمال الصين حيث يحتلّ القمح مكانة الأرزّ، تسود ثقافة اجتماعية أكثر فردية.
على الرغم من التشوّهات الثقافية القائمة لدينا نتيجة الممارسات السلطوية والاستعمار الثقافي الذي كسر الأنماط الاجتماعية العضوية دون أن يتمكّن من استبدالها، فإنّنا نمتلك دائماً كأفراد ومجموعات خيار التمسّك بقيمتَيْن أساسيّتَيْن: تحفيز الثقافة التعاونية الجمعية، ورفع «الرصيد الاجتماعي» عبر العدالة الاجتماعية وإيجاد أسباب الثقة.
سيمكّننا تمسّكنا بهذا الخيار وخوضنا الصراع الثوري على هذا الأساس، من تحصين مناعتنا الفعلية، وتكريس الإنتاج والعمل الجماعيَّيْن، ومن معالجة ثقافتنا ونظامنا الاجتماعيَّيْن على المدى الطويل. سيمكّننا حتى من تغيير شيفرتنا الجينيّة التي يراها حرّاس معبد الأنانية الاجتماعية «متفوّقة» على الرغم من كلّ هذا الخراب.