يبدو الانتقال من «الحياة الاعتياديّة» إلى ما يفرضه علينا وباء الكورونا صعباً وعبثيّاً في الآن نفسه: امتناع عن لقاء الأهل والأصدقاء، توقُّف عن الذهاب إلى العمل، فقدانٌ لحرية الحركة والتنقّل، وأزمة اقتصادية مفاجئة.
لكنّ التجربة لا تُختزل بقدرتنا على وصفها. ورغم أنّ الحالة تتفوّق يومياً على توقّعاتنا وعلى ما اعتقدنا أنّنا نعرفه عن أنفسنا، وعن عزلتنا، وعن الآخرين، إلا أنّ أحدًا منّا لا يعتقد- موضوعياً- أنّنا لن نعود للخروج، أو أنّ هذه هي نهاية الحياة العامّة.
ستتغيّر الحياة نعم، قد نستمرّ في غسل أيدينا إلى أن يأكلنا الهَوَس، كما يأكل الصابون الفيروس (بعد الثانية العشرين!)، ولكنّ أيّاً منّا لا يراوده كابوس أن تُصبح مساحة الحياة الواقعيّة هي منازلنا.
لكن ماذا يفعل أولئك الذين لم ينتقلوا إلى هذا العزل من حالةٍ طبيعيّة، بل من حالةٍ استثنائيّة؟
البارحة، كان لبنان يشهد ثورةً هي ذروة المشاركة والفعل الجماعي، تعبيرٌ عن رغبات ذاتيّة جدًّا تأخذ أفضل وأجمل الأوجُه وهي تعتاش على انتظامها في أولويّات الآخرين. غضبٌ خلّاق، تسيير لمشاعر جميلة وأخرى بشعة كنّا قد فقدنا الأمل بإيجاد ملجأ لها، فأتت الثورة ليتسنّى لنا أن نُحبّ بالعموم، وأن نعبّر عن هشاشتنا وغرقنا مع آخرين في العلن.
وفجأةً، يأتي الوباء ليطردنا من ذروة الجماعة إلى العزلة في بيوتنا. فتُقلِّد الدولة المريضة عُشّاق البارحة بقصّة خيالية تستنسخ فيها قمّة الرومانسية مع أقلّ ما يمكن من العاطفة- روميو وجولييت. «سأحبّكم أكثر»، لسان حالها يقول، «إنْ مُتُّمْ»، صمتاً (للكمّامة أكثر من استعمال!) أو مرضاً، لا يهمّ.
ولكن ماذا سنفعل؟ ونحن نُكذِّب الدولة، ونُشكِّك بمصداقية منظمة الصحة العالمية، وبنيّات الاتحاد الأوروبي وسياساته التضامنيّة (وقد تركوا مثلاً إيطاليا تحترق)، من نُصدِّق؟
سنواتٌ من الخوف والتعذيب والإفقار والاغتراب، وسنواتٌ من الحبّ الرسمي السينيكي، تعني استحالة أن يُصدِّق المواطن اهتمام الدولة بسلامته، وتجعلنا نخاف الفيروس ونخاف أكثر من إعادة رسم الحدود وتغوُّل الدولة وإحكام قبضتها.
تعيدنا العزلة إلى المربّع الأوّل، مثل بندول الساعة ننتقل بين إمكانيّتَيْن: الخوف والأمان. تؤكّد المكبّرات الصوتيّة التي تُذكّر الناس بضرورة التزام البيوت، بأنّ هناك من هو خارج هذا الخوف بطيّاراته يحلِّق قريبا من السلامة القصوى، بينما تشير كل تجاربنا السابقة إلى استحالة تصديق رواياته مهما كانت منمّقة.
الآن ونحن نعود إلى أمان مساحاتنا الخاصّة بينما يتجوّل التهديد حرًّا على شاكلة بشر آخرين، يلوح في الأفق خوفٌ من خسارة أهمّ ما أحرزته الثورة: موتُ وَهْم الفردانيّة في تحقيق أيّ مكسب.
وفي هذه اللحظة، بإمكان صانعات وصانعي الثورة أن يستشفّوا أشكالاً مختلفة للحبّ، للتضامن، للمسؤولية عن حياة البشر وعن الصحة العامة. بإمكاننا أن نشير إلى العزلة المُخترعة، تلك التي تُنزلها الدولة علينا، والعُزلة الاختيارية الطوعيّة التي نتّقي فيها إلى حين خوفاً على أنفسنا وعلى غيرنا دون أن نفقد الخيط الرفيع الذي يفصل بين الاختيار والاختراع.
ببساطة، تعرف المواطنة والمواطن كيف يحبّون بالخاص وعلى مسافة العموميّ، وكيف نحبّ بالعموم الخاص أيضاً، نعرف كيف نعبّر عن حبّنا بالانكماش داخل أجسادنا تارةً، ونعرف كيف نفعل ذلك ونحن نفتح صدورنا عاريةً أمام قنابل الغاز المسيل للدموع، والطلق الحيّ والمطاطي.
نعرف كيف نحمي مَن نحبّ حتّى بما لا نملك وما لا نعرف- فيروس صغير أو دولة عاتية، ومن ثمّ بذات الرمق نشدّهم من أيديهم إلى الشوارع إلى ساحة المعركة… هل كنّا نعرف أنّ أحدًا منهم لن يصاب، لن يمسّه أذى؟ هل نخاف عليهم من فيروس أكثر من تعذيبهم على يد الشرطة؟ كلا، ولكنّ جسد المواطن ليس كجسد الدولة، أجسادنا وأرواحنا وعقولنا أيضًا- إن لم تأكلها بطبيعة الحال الديماغوجيا والأدلجة، وإن عرفتْ أن تعتاش على حاضر السؤال وليس ماضي الرغبة- تعرف أيضًا أن تكون مرنة، أن تلعب «الاستغماية»، أن تختبئ وأن تظهر متى شاءت، وتثق أنّ ما يبدو مبادرةً للموت بالانحجاب عن ممارسة الحياة الطبيعية، هو تمويهٌ للحياة.
إن كان من فِعل سياسيّ الآن، في وجه شبح غير إنسانيّ، فهو أن نُذكّر أنفسنا ومَن حولنا أنّ ما ليس باستطاعة وباء أن يفعله، بإمكاننا أن نفعله نحن دون الارتهان إلى سيناريوهاتٍ حول نهاية موشِكة للعالم، ودون الاطمئنان إلى سيناريوهات الدولة.