التنوير في زمن الإبادة
نُشِر الأسبوع الماضي كاريكاتور مقرف في جريدة «ليبراسيون»، يسخر من بداية الصيام في غزة التي تعاني من حصار وتجويع. لا داعي لنقاش مضمون هذا الانحطاط الجديد في عملية شيطنة فلسطينيي غزة في الإعلام الفرنسي. لا داعي لأنّه يؤكّد ما أصبح واضحًا منذ 7 اكتوبر، أي العنصرية الضمنية في الإعلام الغربي وانحيازه إلى «إرادة الإبادة».
ربّما الأهم في هذه الحادثة هو تبرير صاحبة الكاريكاتور بعد السجال الذي تلا نشره. فالرسم، حسب صاحبته، يندّد بالمجاعة ويأس سكّان غزّة كما يسخر من «سخافة الدين». فبالنسبة لصاحبة الكاريكاتور، وريثة نقّاد الدين، الضرورة اليوم هي في نقد الدين. المجاعة (التي ما من مسؤول عنها) والإبادة (التي ما من مكان لها في هذا الرسم) ليستا كافيتين لتأجيل نقد «سخافة الدين».
الناقد التنويري لا ينتظر. عليه القضاء على الدين أينما رآه، حتى ولو كان على جثث الأطفال. الإبادة لا تدخل ضمن اختصاص عمله.
نقّاد في خدمة السلطة
يشكّل التلطّي وراء نقد الدين من أجل «تبرير» العنصرية، إحدى أقدم حِيَل الاستشراق وربّما أكثرها صلابة. فـ«النقد» و«الناقد» من أعلى مراتب الكتابة، إذ يضفيان على الثقافة شيئًا من البطولة في ملحمة صراع الحقيقة مع السلطة. لكن غالبًا ما يتحوّل النقد، خاصة التنويري منه، إلى حليف للسلطة. فينتهي به تبريرًا لممارسات سلطوية بإسم محاربة «سلطات» أخرى، غالبًا ما تكون متخيّلة. فمن الحقبة الكولونيالية وصولًا إلى حرب العراق، كانت هناك دائماً سلطات تتلطى وراء ضرورة «محاربة التخلّف والتقاليد» لتبرير احتلالاتها «الحضارية». صاحبة هذا الكاريكاتور، مثلها مثل عدد من المثقفين الغربيين، تنحدر من هذا التراث، رغم تلطيها بصفة «الناقد» الكاره للسلطة.
في الآونة الأخيرة، استحوذ اليمين على لقب «الناقد» في صراعه مع ما يراه كسلطة «الصوابية السياسية» وسيطرة الخطاب الليبرالي. فبات الذكوري والعنصري والرجعي يقدّمون أنفسهم كضحايا سلطات قمعية وكأبطال «حرية التعبير» لتلوين تبريرهم للسلطات الفعلية. فالنقد بات سلعة، يمكن ضمّه لأي مشروع سياسي، مهما كان رجعياً، والجميع باتوا أبطال «حرية التعبير» حتى في دفاعهم عن أسوأ السياسات.
من بين ما فضحته الإبادة، حدود الخطاب النقدي الغربي الذي تبيّن أنّه قابل للتعايش مع حدث الإبادة، وكأنّ شيئاً لم يحدث.
نقّاد يبحثون عن ثنائيّاتهم
«وكأنّ شيئاً لم يحدث» ليست ميزة بعض النقّاد الغربيين، إنّها أيضًا- على ما يبدو- ميزة بعض «بيئتنا النقدية».
فبين الحين والآخر، نسمع أصواتاً تخرج من هذه البيئة وتسأل «ماذا عن حماس؟»، بلهجة غاضبة، لهجة مَن اضطرّه الزمن الرديء على الصمت لفترة طويلة وما عاد يستطيع كبح نقديّته أكثر من ذلك.
«ماذا عن حماس؟» و«ماذا عن حزب الله؟»، سؤالا النقد هذان يبدوان عندنا كسقف المخيّلة السياسية. ربّما يمكن تلخيص هذا الموقف بالتقرير الرديء الذي نُشر على محطة الـ«ال. بي. سي. آي»، والذي حاول إعادة تدوير نظرية «الضدَّيْن» من أجل تصوير الشعب الفلسطيني كضحية خيارات مستحيلة في السياسة، وليس كضحية «إرادة الإبادة». فالإصرار على تصوير العمل النقدي وكأنّه خيار بين «شرّين» يتجاهل حجم الحدث، لا «حجمه الأخلاقي» وحسب، بل حجمه المفهوميّ أيضاً. فهل يمكن معاينة حدث الإبادة للحظة، من دون الاضطرار للبحث عن «ضدّ» يمكن أن يقدّم التوازن الضروري للناقد وموقعه؟
المشكلة في هذا النقد ليست في توقيته، بل في فراغه السياسي. فالعودة إلى نظرية «الضدَّيْن» ليست إلّا إعلان إفلاس نقّاد لم يكن لديهم ما يقولونه إلّا تصوير أنفسهم كالثالث المنتظَر لثنائيةٍ من نسج خيالهم: لا للإسلام السياسي ولا للعسكر، لا للاحتلال ولا للديكتاتورية، لا للثورة ولا للنظام…
النقد، بين تروّي الفهم وسرعة الاتهام
أمام حدث الإبادة، الذي حوّل وسيستمر بتحويل السياسة، يبدو هذا النقد أقرب إلى تصفية حسابات قديمة، لا مكان لها في عالم ما بعد الإبادة.
تحوّل النقد إلى ما يشبه لعبة «أخذ المواقف»، تسارعت مع سيطرة النموذج الإعلامي على فكرة الناقد. باتت الأحداث السياسية، حتى تلك التي بحجم الإبادة، مجرّد مناسباتٍ لتكرار مواقف مسبقة، غالبًا بطريقة متسرّعة، بغية تطويع هذه الأحداث وجعلها مجرّد تكرار لما سبقها.
«وكأنّ شيئاً لم يحدث»…
«الاتهام»، رغم بطولته الظاهرية، سهل، يطمئن، يؤكّد أن شيئاً لم يحدث، ما زالت بضاعة الماضي صالحة للاستعمال. لكنّ النقد في بعض الأحيان يتطلب أكثر من سرعة الاتهام، يتطلب التروي بعض الشيء والاعتراف بأن شيئاً قد حدث فعلاً، وهو يتطلب أولًا إعادة النظر بهذه الاصطفافات. فبدلاً من محاولة إعادة تدوير بضاعة فكرية، معظمها مهترئ، ربّما كان على نقّادنا أن يقفوا أمام حجم الحدث ويعيدوا النظر ببعض معتقداتهم.
لكن بالنسبة للبعض، ربّما كانت «وكأنّ شيئاً لم يحدث» هي برهان صلابتهم الفكرية التي لم تهتزّ منذ سنوات. ربّما أيضاً، هي دلالة خروجهم عن الواقع.