تأتي الصورة وتذهب، أحياناً مع صوت وأحياناً صامتة. وثمة شمس في الخلفية دائماً. تتوقف السيارة عند حاجز الفنلنديين، فنتسابق أنا وأخي لنقول: «تِرڤِت تِرڤِت». يبدو أنّنا التقطنا بعض الصور مع «جنود حفظ السلام». وكنّا نسمّيهم «الطوارئ». ولا يبدو من الصور أنّنا كنّا نكره الفنلنديين، بل على العكس من ذلك. قبل أشهر انتبهت للكلمة [تِرڤِت]، في فيلم كاوريسمكي الأخير، فقرأت الترجمة وفهمت أنها تعني «مرحباً». لكي أكون صريحاً من البداية، أحبّ فنلندا بسبب كاوريسمكي. الجنود يبقون جنوداً. ولكننا كنّا نعتبر الحرب لعبة، وقد اتضح لنا لاحقاً أنّها أكثر من كذلك بكثير. وهذا على ما يبدو عَودٌ أبدي. أن يلعب الأطفال، وأن تتذكر الكتابة الطفولة كما لو أنّها غابة. نحن الآن على مدخل الغابة الوديعة: في أوپل حمراء، على المقاعد الخلفية تحديداً. صغيرة ومصابيحها الخلفية مستطيلة وأليفة. سيارة تشبه سنجاباً. أتحدّث هنا عن الرحلات العائلية القصيرة إلى الجنوب منذ أواخر الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات. وأتذكر علامة أوپل جيداً، مع أنّ هذا النوع من السيارات اختفى فجأة من لبنان. كنّا صغاراً لكنّ أخي الأصغر كان صغيراً جداً. الآن نبدو جميعنا صغاراً في الصور والفارق بيننا لم يعد واضحاً. مع ذلك يتذكّر القصص مثلنا لشدّة ما تحدثنا عنها. أعتقد أنّها ستبدو مملّة اليوم لكنّي مع ذلك أحبّها. فأنا لا أملك قصصاً غيرها عن الطفولة. انتهت طفولتي تقريباً بنهاية الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يكن ممكناً أن أطالب بطفولةٍ جديدة. فيروز. الراديو. صوت الطريق. يبدو أنّي غفوت.
آخر مرّة ذهبنا إلى النهر كانت قبل أكثر من عشرة أعوام. وأنا أنظر إلى التاريخ اليوم، يبدو لي بعيداً كما لو أنّي أنظر إلى نجمة تومض وتنطفئ. نجمة لم تعد موجودة. مِثل النهر تماماً. أشياء هائلة يمكن أن تحدث في عقدٍ من الزمن. يمكن أن يعرف الإنسان الندم خلال ساعات، فكم مرة يندم في عقد. ولكنّ الندم الشخصي كالملح. يذوب خجلاً في الأحداث الضخمة. يمكن أن يموت آلاف الأشخاص في حربٍ واحدة. وفي الحروب ملايين. وفي الإبادة قد ينطفئ الجميع، ويكتفي جميع الآخرين بالانطفاء خلف شاشات هواتفهم. ويمكن أن يسقط جدار مهول. الحزن يستغرق أكثر من ذلك بكثير. لكنّ اختفاء النهر يبقى حدثاً لا يمكن تخيّله، ولا نعترف به إلا عندما يحدث. ما زالت الطريق المؤدّية إليه في مكانها، وما زال المَسلك الذي نتخذه للوصول موجوداً. هناك بعض المياه البنية القاتمة، محاطة بالأعشاب الجافة والصخور البركانية الصلفة، لكنها متجمعة في ما يشبه المستنقع. بالكاد يمكن القول إنّها مستنقع، فكيف تكون نهراً. ويبدو أنّ ما يدفعها للسير إلى الأمام ليس غريزتها كما هو الحال مع الأنهار، ولا الملل من اختفاء الزائرين الذين كانت تعج بهم المنتزهات المتراصة قرب بعضها بعضاً على الضفة اليمنى. ما يحرّك المياه بالضبط هو الأوساخ التي تتدفق من المعامل القريبة.
في البداية شكك كثيرون في أنّ النهر كان موجوداً في الأساس. وارتبكوا أمام تأكيدات الآخرين، وأنا واحد منهم، بوجود النهر. وكان له صوت ورائحة وشكل، وكل ما يجعل الأشياء حية. راحوا يفكّرون ويسألون وربما يندمون وربما فقط لثوانٍ قليلة. لم يجدوا الاجابة في هواتفهم، مع أنّه يمكنهم اختراع النهر هناك. ما يؤرق فعلاً هو السؤال عن الماضي. لا يعود الماضي ماضياً عندما ينتهي. لا يعود شيئاً. بعد أمتارٍ قليلة يختفي كل شيء، ولا يعود هناك أي أثر لوجود نهر في السابق. لم ينخفض منسوب المياه بل تبخرت. ولا نقطة. جفاف يزداد جفافاً. أرض مجعدة بالنسيان، أغصان متشردة. أصبح بإمكان الجميع التفرّج على الأحجار اليابسة في القعر، بالإضافة إلى عبوات المشروبات الغازية والزجاجات وبقايا البطيخ المحنّط وكل أصناف البلاستيك، وأحياناً أحذية بفردةٍ واحدة وفانيلات لفرق رياضية أوروبية بعضها هبط إلى الدرجة الثالثة أو الرابعة. توجد أيضاً بقايا أعلام حزبية منوعة وممزقة وقد اختلطت مع أكياس نيلون عليها وحل يابس، على الأرجح بفعل الحرارة. ثمة سحلية محنّطة وسلحفاة صغيرة بالتأكيد مسالمة ماتت بالمقلوب ولم تجد من يسعفها، وبالقرب منها تماماً بطاقات يتضح عند الاقتراب منها إنّها كوتشينا. فقط أربعة الديناري ما زالت سليمة أما بقية الأوراق فغير واضحة. وليس في الأمر أية حكمة غالباً، مِثل حظوظ البشر بالنجاة أو الموت أثناء جولات القصف المعتوهة. مع ذلك، لم يكن قدر النهر هو الاختفاء، وربما معظم الذين رموا كل هذه الأشياء لا يتذكّرون متى ولماذا حدث ذلك أو أين، غير أنهم بالتأكيد لم يعتقدوا أنّ كل شيء سيظهر على هذا النحو. وحتى إذا نظروا وشاهدوا، فلن يتذكّر أحد ما بسهولة أنه هو الذي رمى عبوة بلاستيكية هنا، في هذه البقعة بالذات، وربما يكون التيار قد جرفها، ولكنه لم يجد طريقاً يكملها، فتوقف هنا، وتوقفت معه الحياة في المكان. وبتوقُّف الحياة لا تعود هناك أي قيمة للذكريات، على عكس ما نعتقد، بل تصبح الذكريات مثل الخردة التي أمامنا. لم يعد بوسعنا القول الذكريات في النهر. النهر لم يعد موجوداً.
لا أقول إنّ الذين يتمسكون بالقصص مخطئون. ثمة جسر كنت أقفز عنه، في أحد المنتزهات. ما زال في مكانه لكنه لم يعد يربط بين ضفتين. لطالما قفزت عنه، وذات مرة جلفت وجهي وكاد رأسي أن يصطدم بالقعر. أما الآن، لم يعد بإمكاني أو إمكان أي أحد القفز على الاطلاق، مع أنّ القعر صار واضحاً. لم يعد يوجد إلا اليابسة. واسمها بالعربية يدل إلى أنها مزيج من ثلاثة أشياء. الأرض والشمس والزمن. ذلك المكان الذي كنا نخشى الاصطدام به. لقد اصطدم به الجميع في النهاية، سكان القرى القريبة والزائرون والذين عرفوا النهر. جلفوا عيونهم وهم ينظرون نحوه ولا يجدونه، قبل أن يدير الواحد أو الواحدة منهم ظهره ويغادر: هنا القعر.
عندما قصفت الطائرات محولات الكهرباء في منطقة الجمهور بجبل لبنان عام 1997، لم تكن توجد مولدات سرطانية في بيروت. ولا هواتف ذكية نُشهِرها كأسلحة مضيئة. في ذلك الليل العظيم تعرّف الناس إلى بعضهم بعضاً عن الشرفات عبر أصواتهم وحسب. واليوم عندما ترد كلمة خوف إلى مسمعي، بأي لغة كانت، أتذكّر تلك الأصوات. الطائرات أسرع من الصوت، وحطمت جداره في تلك الليلة وحدها أكثر من عشرين مرّة. جلست في الزاوية ووضعت يدي فوق أذني. وكل ما يشغلني منذ تلك اللحظة هو رغبتي بالتأكد من أنّي لا أنتمي إلى الظلام. مهما بدا ذلك رتيباً، فإنّ وجود شمعة في الكوريدور كان كافياً لاستبعاد حدّة الشبه بين الحياة والموت. إلا أنّ هذه القصة أصبحت سخيفة لدرجة منفرة اليوم، بعدما عايشت، مثل الجميع هنا، عشرات القصص. بعد انفجار المرفأ صار كلّ شيء باهتاً. أتخيّل أنّ قلبي نفسه صار أصفر. حتى أنّي عندما أتذكّر بيروت من بعيد، أتذكّرها من خلف فلتر أصفر داكن. المباني صفراء، الزجاج أصفر، الوجوه صفراء، السماء صفراء، الأرصفة إذا وجدت أيضاً، وحتى العربات والضباب والمطر المتساقط والكورنيش والبحر والأشجار القليلة المتبقية. كل شيء أصفر وباهت. وتبدو لي تلك الصورة من عام 1997، وأنا في آخر الكوريدور، حزينة وحسب. يبدو الاختباء في الظلام انسحاباً مبكراً. أما اليوم، فيبدو لي انسحاباً كئيباً ومشيناً. وإن كان الاختباء الأول في الكوريدور يشبه البصمة الداكنة، فالاختباء الثاني يشبه زجاجاً تهشّم إلى الأبد. وعندما أنظر إلى الحرب من بعيد، أتذكّر النهر المقتول. ولا يحضر في بالي شيء سوى تعبير رهيب لإميل سِيوران، عن ذلك الشعور المُخزي الذي يجب على الناجي مِن الموت أن يتحمله.