رحلت نوال السعداوي تاركةً خلفها إرثاً نسوياً نتعلّم منه ونبني عليه.
في عمليّة التعلّم هذه، لا يُحتَّم علينا التماهي مع شخصيّة المُعلّم. بل العكس، إنّها فرصتنا للنقد وللمساءلة والمضيّ قدماً في المعركة التراكميّة لتحقيق العدالة النسويّة.
على مدار حياتها، ناضلت نوال السعداوي ضدّ القمع والاضطهاد الموجّه ضدّ النساء. حاربت سلطة الأب على باقي أفراد الأسرة، وسلطة الدين على المجتمع، وسلطة الحكومات على الشعوب، وكرّست حياتها لفضح انتهاكات الأبوية والكشف عن الواقع العنيف المفروض على حيوات النساء وأجسادهنّ.
استطاعت السعداوي، من خلال مسيرتها وكتاباتها ومؤلّفاتها، أن تُلهم العديد من النساء وأن تصوّب غضبهنّ نحو مسبّب المعاناة، لا نحو أنفسهنّ.
قد يعرفها كثر لدورها كرأس حربة في المعركة ضد ختان الإناث، والتي عاشتها بنفسها في عمر السادسة (تصف نوال هذه التجربة في كتابها «الوجه العاري للمرأة العربية»).
اذاً، رفعت نوال صوتها بوجه المحظورات الجنسية والعادات والتقاليد البالية، ووضعت نصب عينيها الإطاحة بقدسية التابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس.
في كتاب «أوراقي… حياتي»، تروي نوال كيف أنّ قصّةً كتبتها لم تنشر في إحدى المجلات، بعدما طلب منها المحرّر الابتعاد عن الموضوعات الحساسة، عن «الثالوث إياه». ردّت نوال بأنها تعرف طرفَين من هذا الثالوث، «ربّنا وعبد الناصر، والثالث مش عارفاه». فأتاها الجواب: الثالث هو الجنس يا دكتورة.
هذا ما لم تقبل به الدكتورة، لم تقبل بأن يكون الجنس هالة تحرم العامّة من خوض النقاش فيه. فكتبت أكثر من 60 كتاباً تتحدث فيها عن تجاربها الشخصية وعن تجارب النساء عموماً، قد يكون أبرزها: المرأة والجنس، الأنثى هي الأصل، مذكراتي في سجن النساء، وامرأة عند نقطة الصفر.
كانت كتاباتها سراجاً منيراً لوحدتنا، ذكرتنا أنّنا لسنا وحيدات رغم اختلاف سياقات تجاربنا. كانت فخرنا بوعينا النسوي، كانت ثورتنا الفكرية التي طوّرناها وحسّنّاها لتصبح أكثر شمولية. كما حفّزت العديد منّا للتكلم علانيةً. ونتيجة لهذه الكتابات النسوية الشرسة وآرائها التنويرية حول قضايا النساء، سُجنت ورُفعت ضدّها دعاوى، ومُنعت كتاباتها، وصولاً إلى التهديدات بالقتل.
ومع أنّها تصدّت في حياتها لحملات المتطرّفين والمُهيمِنين الذكوريين، إلّا أنّها لم تسلم من عنفهم في مماتها.
في الأيّام الأخيرة، شُنّت حملات تحريضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ترفض الترّحم عليها، وانهالت الشتائم وهجمات التكفير ضدّها.
طبعاً، يندرج ذلك كله ضمن الهجمة المضادة للنظام الأبوي لطمس فكرٍ أرهقه. لكنّ النَّيل من الفكر لم يكن كافياً، إذ تحوّل جمهور المواقع إلى فقهاء وأشباه آلهة، تارةً يسخرون من شكلها غير المطابق لـ«معاييرهم»، وتارةً يلعنونها كونها طعنت في ثوابت دينهم.
حتّى أجهزة الإعلام «الرسمية» لم تنصفها. أساساً، كيف تنصفها وهي- أجهزة الإعلام - تلعب دور المروّج لأيديولوجيا النظام؟
انظروا إلى طرافة قناة الجزيرة مثلاً، وتعاملها مع خبر الوفاة. الازدواجية بأبهى حللها. على حسابها الموجّه للجمهور العربي، نشرت «الجزيرة» خطاباً معادياً لنوال، «حريص على الأديان». أمّا على الحساب الأجنبي، وخضوعاً لرهبة «الرجل الأبيض»، نعت «الجزيرة» نوال بموقفٍ يمجّد مسيرتها ونضالها. وإنّ تدل هذه الازدواجية على شيء، فهو أنّ التحيّز الذكوريّ لا يزال مهيمناً على الثقافة والإعلام وقضايانا.
ولكن…
إن تكن نوال هي من علّمتنا المساءلة الاجتماعية وعدم المهادنة على المبادئ واختيار صفّنا ومعركتنا، فكيف لنا أن نغضّ النظر عن مواقفها الأخيرة في تطبيع المواقف مع الديكتاتوريات وتأييد الأنظمة الشمولية، وموقفها من نظام السيسي مثالاً؟ لا سيّما وأن ذلك قد تزامن مع مرحلةٍ تاريخيةٍ نسبةً لشباب مصر ونضالهم.
كيف نغضّ النظر عن تصريحاتها الداعمة للتسلّط السياسي والمخابراتي؟
نقول هنا إنّ نوال السعداوي اخطأت في تقديرها، لكن هذا لا يقلل من أهمية ما أنتجته وأهمية نضالها، ولا يقلل من أهمية وقع كتاباتها على حياتنا. الزلّة هنا كانت في فصل المعارك، وفصل النضال ضدّ الموروثات الاجتماعية والدينية، عن النضال ضدّ أنظمة القمع والاستبداد. لكنّنا نعلم علم اليقين أنّ هذه المستويات جميعها أذرع للنظام الأبوي نفسه.
في رثاء نوال، تتخبّط مشاعر مختلطة تجاه شخصيتها ومواقفها، وإن يؤكّد ذلك على شيء، فهو أن نسويّتنا مبنية على النقد والتفكيك لا على الرمزية والتقديس، وأنّها أداتنا السياسية والثورية لنعبر بها إلى عالمٍ بديل وعدالةٍ بديلة، كما نريدها نحن، لا كما يريد لها النظام أن تكون.