في ختام فلسفته التي تُعتبر الأهمّ بين نظيراتها في القرن الثامن عشر، يُصرّح كانط بأنّه وَجُب عليه تنحية العقل جانباً لفسح المجال أمام الإيمان. اعتُبرت هذه الجملة مفتاحيّة في كلّ ما تلاها في مجالَي الفلسفة واللاهوت.
على المقلب ذاته، يُصرّح العلّامة السيّد محمّد حسين فضل الله بأنّه إذا تعارض العلم مع الدين، فعلى الدين أن يراجع أوراقه.
لا يزال بعض المتديّنين يرون أنّ مسألة الكورونا «شخصيّة»، أو نوعاً من التحدّي، وأنّ العلم سلاح الملاحدة حصراً (أستعمل مصطلح «الملاحدة»، لأنّ شخصيّة من النخبة الدينيّة نبّهتني مرّة أنّ كلمة «ملحد» لا تُجمَع جمعاً مذكّراً سالماً لأنّ الملحد ليس عاقلاً، وبالتالي يُجمع بصيغة جمع التكسير)، ويذهبون إلى اعتبار العلم وسيلة لتحقيق مؤامراتٍ كَونيّة على أصحاب الرأي القويم.
لا تزال شريحةٌ من هؤلاء مقتنعة أنّ المسألة برمّتها لعبة سياسيّة إقليميّة، وشريحة أُخرى مقتنعة أن الميتافيزيقيا ستشفينا. يقول المنطق إنّ الأزمة، إن بلغت حدّاً حرجاً، فقد يقتنع البعض بضرورة التعاطي الجدّي معها. لكنّ ما يحصل هو العكس. فعلى ما يبدو، كلّما اتّخذت مسألة انتشار الكورونا منحىً جدّياً أكثر، ازداد إنكار هؤلاء وتمسّكهم بأنّ الأزمة غير موجودة أساساً.
قد تفي مساهمة فرويديّة بحلّ المعضلة. في كتابه «قلق في الحضارة» (والعنوان ملائم لواقعنا اليوم)، يناقش فرويد مسألة الدين وارتباطها بالنَفس. ما يهمّنا من هذا النقاش هو الجزء المتعلّق بمبدأ الواقع: وبما أنّ الواقع يجعل حياتنا مستحيلة لا تُطاق، فلا بد من قطع كل صلة به، إذا كنا نحرص على السعادة بصورة من الصور. ويمكننا بهذا الموضع غضّ النظر عن الحياة الاجتماعية الروتينيّة والذهاب للتصوّف والنُسك مثلاً، لكن ثمّة إمكانيّة للمضي قدماً أبعد من ذلك.
لتبسيط المسألة، يستشهد فرويد بالأحلام. فما يجري في الحلم هو بناءٌ على عناصر مستوحاة من الواقع، وإعادة تشكيلها بما يلائم غرائزنا دون التقيّد بالمنطق، وكما يحلو للّاوعي بعد انحلال رقابة الوعي. وبذلك نبني عالماً متخيّلاً يُريحنا أكثر من العالم الحقيقيّ. نسبيّاً، يتقاطع هذا العمل مع سلوك المصاب بالذهان الهذائيّ (paranoiaque). لكن ثمّة حالة أخرى، إن أردنا توسيع منطق البحث، وهي تقوم متى سعت الكائنات البشريّة إلى تأمين السعادة لنفسها وإلى الاحتماء من الألم بواسطة تشويه خرافيّ للواقع. والحال أنّ أديان البشريّة يجب أن تُعتَبر هذيانات جماعية من هذا النوع. وطبيعي أنّ من لا يزال يشارك في هذيانٍ ما، لن يعترف أبداً بأنّه هذيان.
ليس هذا الرأي حكراً على خبراء التحليل النفسي. فمعظمنا راودتنا الفكرة ذاتها عندما تابعنا الإعلامي عبدو الحلو بمرافعته الشهيرة على قناة OTV. كان الجميع يقول انظروا لهذا الرجل، إنّه يهذي، لكنّه لن يقتنع أبداً بذلك.
ليست المسألة مسألة تكريس التناقض بين العلم والدين. ببساطة، يمكن لأيّ متديّن أن يقتنع بوجوب الحَجر ووضع الكمّامة وغسل اليدَيْن. يمكن لأي متديّن، بالوقت عينه، أن يأخذ الإجراءات الوقائيّة الطبيّة وأن يمارس طقوسه الدينيّة، وستنفعه الممارسة الأولى بيولوجياً والثانية نفسيّاً- وهذا امتيازٌ لا يملكه الملحدون بالمناسبة.
لكنّ الإشكاليّة تكمن في غضّ النظر عن هذه الإرشادات لا لشيءٍ، سوى لأنّ «ديننا أقوى من العلم». والأسوأ، اتّهام من اتَّبع الإرشادات الوقائية من المؤمنين بـ«ضعف النفس» لأنّهم لم يقتنعوا أنّ الطقوس وحدها كفيلة بحمايتهم.
ليس الدين بالمطلق «هَذياناً». ما نناقشه هنا هو عندما يدخل الدين مرحلة «التشويه الخرافي للواقع»، ويذهب معتنقوه إلى ضرب الواقع عرض الحائط، معرّضين نفسهم وغيرهم للخطر، كما في حالة الكورونا. هنا، يصبح الهذيان محفّزاً لنشر الأوبئة. لكنّ الكائن، الذي يدفع به تمرّده اليائس إلى سلوك هذا النهج لبلوغ السعادة، لا يصل إلى شيء عادةً؛ إذ سيجد الواقع أقوى منه.