حفلت الآونة الأخيرة بالتصريحات والتعليقات: مفاوضات صندوق النقد وسجالات التيّار الوطني الحر والقوّات اللبنانية وانضمام فرنجيّة لهم، خطاب للأمين العام لحزب الله، وآخر لباسيل، ومشادّات آل الحريري. وسط كلّ تلك الجلبة، على تنوّعها، قاسم مشترك: كل هؤلاء، في الوقت عَينه، يملكون الحقيقة المُطلقة، حصريّاً، وبالأدلّة، دون غبار عليهم.
شغلت مسألة «الحقيقة المطلقة» حيّزاً واسعاً في ميدان الفلسفة. أمّا في لبنان، فأصبحت نغمةً شديدة الابتذال. لكنّها تصلح أن تكون تمريناً نظريّاً، في تفنيد خطابات «الزعماء» ولجوئهم لبدعة «الحقيقة»، ولو أنّ كلّ مقاربة تختلف عن الأخرى.
التيار الوطني الحرّ مثلاً، هو التلميذ البارّ لمدرسة جوزف غوبلز، وزير الإعلام والبروباغندا في ألمانيا الهتلرية. كان شعاره: كرّر الكذبة قدر المستطاع حتى تصبح حقيقة. هكذا يفعل التيار، سيّما في تكرار نغمة كان بدنا نشتغل، بس ما خلّونا.
في مرافعات مناصريه، تصبح هذه الجملة قاعدة نقاشهم. يكرّر التيار أنّه علماني، ثمّ ينشر الكراهية ضدّ الأجانب (الفقراء منهم) ويحمّل اللاجئين وزر الانهيار، ويحصر نضاله في نَيل حقوق المسيحيين، ويمنع المسلمين من السكن في «مناطقه».
يكرّر أنّه علميّ وحريص على البيئة، ثمّ يُنشئ سدّاً في المسَيلحة ويمهّد لآخر في بسري ويقضم جبل نهر الكلب. يكرّر أنّه من دعاة الانتقال من اقتصاد رَيعيّ إلى اقتصاد منتج، لكنّه حتى الآن لم يقدّم ولو مشروع قانون للنقلة هذه. فعلُه يناقض قولَه، لكن بتكراره الكذبة ذاتها مراراً في كل تصريح ومقابلة، يصوّر التيار نفسه مالكاً للحقيقة.
في المقابل، وليتمكّن من إضفاء صفة «الحقيقة» على آرائه، ينسب تيار المستقبل، «حقيقته» مباشرةً إلى رفيق الحريري.
بدأت المسألة مع رواج مصطلح بدنا الحقيقة إثر اغتياله («عدّاد الحقيقة» مثلاً)، حتّى صارت الصفة ملازمة له. علاقة الشهيد- الحقيقة الجدليّة هذه، يلجأ إليها سعد الحريري كلّما أراد شدّ العصب. غَرَّد، مثلاً، في نقده لأعمال الشغب في بيروت،: أهذه هي بيروت كما أرادها الشهيد رفيق الحريري؟ بمجرّد أن قال ذلك، تصبح «الحقيقة» هي الرؤية التي أرادها رفيق الحريري للمسألة. ومن يخالف «حقيقة» سعد الحريري هذه، فهو يخالف وصيّة الشهيد، ولنا أن نتخيّل ردّة فعل المناصرين.
أمّا حزب الله، فهو المثال الأوضح في هذه المسألة، لكنّه أيضاً الأعمق أيديولوجيّاً. الحقيقة هنا غَيبيّة، منسوبة إلى الإلَهيّ.
تبدأ بأنّ الناطق الرسمي باسم الحزب، وأمينه العام، هو رجل دين (لكن ذلك لا ينفي عنه صفة رجل السياسة، بل يؤكّدها). الحقيقة هي ما أمرنا به الله، بلسان أوليائه الصالحين (والمُؤَوّلين له). في الشكل، تُنقَل الأخبار إلى المناصرين بقالبٍ دينيّ: مع عمامة ولحية وعباءة، داخل المجمّعات والحسينيّات. يبدأ الخطاب بالبسملة، ينتهي بالسلام، ويُؤَكّد المناصرون على الأفكار الهامّة بالصلاة على الرسول. ولا ننسى الورقة الأمضى: التكليف الشرعي، يلجأ إليها الحزب في فرض التوجيهات الضروريّة على المناصرين (كما فعل في الانتخابات النيابيّة 2018).
عليه، تُصبح وجهة نظر الحزب السياسيّة هي الحقيقة، لارتباطها بفكرة «الله»، المقدّس والكليّ والعالي على النقد. من يخالف آراء الحزب، فهو يخالف شريعة الله ويمسّ بالمقدّسات. من هنا كان تعصّب مناصريه ضدّ كل من ينقد «الحقيقة» الّتي يتبنّاها حزبهم.
الأمثلة عديدة، ولكلّ حزبٍ أيديولوجيّته في عرض تملّكه للحقيقة. لكنّ منطلقها واحد: الحقيقة مسألة فوقيّة، تأتي مسقطةً على الجماهير.
وعلى الضدّ من ذلك، قُدِّمت مقارباتٌ نقديّة مفادها أنّ الحقيقة تأتي من أسفل، من الواقع الملموس وتفاعل الأفراد واختلاطهم في حيّزٍ زمنيّ ومكانيّ مشترك.
فهل تستطيع الحالات الشعبيّة المُنتفضة أن تخلق حقيقةً أوسع من الحقائق المُجزَّأة التي اختلقتها أحزاب السلطة؟