النظام المصري شريك في الحصار والمجزرة
هذا عنوان المنشور الذي أعطانيه أحد الشباب بينما كنت أسير في شوارع بيروت. دعا المنشور إلى وقفة احتجاجية صباح الأربعاء 22 تشرين الثاني 2023 أمام السفارة المصرية في بيروت، لإعلان دعم الشعب الفلسطيني والتنديد بشراكة النظام المصري في حصار غزة. عندما علم الشاب بجنسيتي، تراجع خجلًا وأخبرني إنه يعلم الفرق بين الشعوب والحكومات، نحنا بنحكي عن النظام. دائمًا ما تكون الانتقادات الموجّهة إلى مصر لاذعة وقاسية فيما يخص التعامل مع القضية الفلسطينية، نظرًا للدور التاريخي الذي لعبته منذ الحكم الناصري ومنذ وقوع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية في السنوات التي تلت نكبة 1948. فهناك، من جهة، الموقع الجغرافي المصري الحسّاس كونه على تماس مع الحدود الفلسطينية، وهناك، من جهة أخرى، العداء التاريخي بين مصر وإسرائيل، بسبب احتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء ثم استردادها في حرب العبور 1973، وما تلا ذلك من سلام دافئ بقيادة السادات. كلّ ذلك يجعل الموقف المصري ملتبسًا بين الالتزام بالاتفاقيات الدولية أو الانحياز إلى الشعب الفلسطيني ومن قبله لرغبة الشعب المصري.
وفي كل مرة نسترجع التساؤلات نفسها: هل أخفقت مصر في دورها تجاه فلسطين؟ وهل يُلام الشعب المصري؟
معبر رفح ودور النظام المصري في الحصار
تقول النكتة الشعبية: إن الإسرائيليين يمنعون لأبو علاء (الاسم الذي أطلقه المصريون على الرئيس الأسبق حسني مبارك) قافلات المساعدات إلى غزة، فيصفّ 5 شاحنات أمام المعبر، ويمرّر 500 من الأنفاق. دلالة النكتة واضحة، وهي أنه على الرغم من فساد النظام الذي أسقطته ثورة 25 كانون الثاني 2011، إلا أن مواقفه تجاه قطاع غزة وتجاه القضية الفلسطينية كانت أكثر عطاءً واتزانًا من النظام الحالي. فحتى لو عانى في بعض اللحظات من انتقاص السيادة على أراضيه أو على معبر رفح أو على قراراته السياسية، لكنه كان يجد حلولًا وبدائل وأوراق ضغط. فإذا مُنع من الدعم الرسمي للقطاع، سيمرر المساعدات من الأنفاق، ويلاعب الإسرائيليين كما يلاعبونه.
تلقّى النظام المصري لومًا كبيرًا، واتهامات بالمشاركة في الحصار على الشعب الفلسطيني بتضييق الخناق على معبر رفح. برّر النظام المصري ذلك بأنه لن يسمح ولن يشارك في سيناريو تهجير الغزّيّين إلى شبه جزيرة سيناء. وصرّح الرئيس السيسي في فاعلية «تحيا مصر وفلسطين» بإستاد القاهرة، أن المعبر لم يُغلق لكنه قُصف 4 مرات من القوات الإسرائيلية، وكانت الأولوية للحفاظ على أرواح القائمين على المساعدات. يقارن البعض بين موقف الرئيس السيسي وموقف الرئيس الراحل محمد مرسي الذي سمح بفتح معبر رفح خلال سنة حكمه. وكانت سنة ذهبية بالنسبة لسكان القطاع، انفتحوا فيها على العالم الخارجي وتمتّعوا بحرية التنقل والحركة، قبل أن يعلن السيسي انقلابه العسكري في 3 حزيران 2013 ومعه غلق المعبر، بدعوى محاربة الإرهاب في سيناء.
فلا شك أن مصر لديها من الأوراق السياسية ما يُمكّنها من التدخّل بشكل فاعل في الإطار الرسمي والدبلوماسي والسيطرة على معبر رفح والسماح بكسر الحصار والمساعدة في تمرير القوافل الطبية والمساعدات الإنسانية. لكن الأمر محكوم بأمور عدّة، منها الإرادة السياسية للنظام الحاكم، وضرورة فتح المجال العام لمنح المصريين حرية ممارسة العمل السياسي وحرية التعبير والحق في التجمع السلمي دون خوف من الاعتقالات أو من الملاحقة الأمنية.
التطبيع واتفاقية كامب دايفيد
في كل مرة يُقصف قطاع غزة، يعود الحديث عن اتفاقية كامب ديفيد، فنسمع أصواتًا بعضها مقرّب إلى النظام، تطالب بإسقاط الاتفاقية وإنهاء حالة السلم مع إسرائيل، كما حدث مع النائب البرلماني مصطفى بكري الذي مزّق نسخة من الاتفاقية في الجلسة الطارئة التي عقدها البرلمان المصري في بداية الحرب لمنح التفويض إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي. وفي المقابل، ترتفع أصوات أخرى مطالبة بالتعقّل وبضرورة استمرار العلاقات وتوطيدها سواء عن قناعة شخصية أو تملق للنظام الحاكم، بينما يراجع البعض مواقفه من التطبيع ويعتذر عنها.
وكانت الناشطة المصرية داليا زيادة، أحد تلك الأصوات التي علت دفاعًا عن إسرائيل وإدانة المقاومة، في إطار مقابلة أجرتها مع أوفير وينتر، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب. هاجمت زيادة من قبل الجندي المصري محمد صلاح الذي اقتحم الحدود بين مصر وإسرائيل وتسبب في مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين. تلقت هجومًا عنيفًا من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والنشطاء، وطالتها تهديدات واتهامات بالخيانة والتجسس لصالح إسرائيل، ما جعلها تغادر مصر، ثم تلتقي بفلور حسن ناحوم، نائبة عمدة مدينة القدس للشؤون الخارجية والاقتصادية.
لكن على الجانب الآخر، تراجع الصحافي المصري أسامة الغزالي حرب عن موقفه من التطبيع مع إسرائيل. ويعتبَر حرب من أبرز الشخصيات العامة في مصر التي تبنت الموقف المصري من التطبيع ودعمته ودافعت عنه، لكنه في عموده اليومي بجريدة الأهرام أعلن اعتذاره الصريح: أعتذر عن حسن ظني بالإسرائيليين الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة. أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني. إني أعتذر!
التضامن رغم القمع الداخلي
حاول المصريون إظهار الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وشهدنا بعض التظاهرات والتجمعات المحدودة من النشطاء والحركات السياسية. في المقابل، لجأ النظام إلى محاولة استثمار اللحظة عبر دعوة السيسي المواطنين لمنحه تفويضًا جديدًا لحماية الأمن القومي. لذلك سمح الأمن للمتظاهرين بالحشد في الميادين قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويقتحم المتظاهرون ميدان التحرير لأول مرة منذ الانقلاب العسكري، ويهتفون بشعارات مناهضة للنظام وللسيسي ولدعوات التفويض نفسها. ووصلت الأمور إلى اعتقال عشرات المتظاهرين والنشطاء على أقل تقدير، وشن حملة أمنية على النشطاء في منازلهم وإعادة اعتقال بعضهم. أدرك النظام أن محاولة ترويض الشارع المصري هي لعب بالنار في الوقت الراهن.
في ظل تضييق الخناق على أي حراك شعبي، لم يجد المصريون أمامهم حلًا إلا من خلال التدوين والتأثير الإعلامي من أجل تغيير السردية الإسرائيلية وإظهار موقفهم التضامني بوضوح، ومن خلال المبادرة بحملات مقاطعة واسعة للشركات الإسرائيلية والعلامات التجارية التي تدعم جيش الاحتلال، والمساعدة في نشر بدائل محلية لجميع المنتجات. فهل نجح المصريون هذه المرة في خلق سُبل جديدة لنضالهم السلمي رغم القمع المفروض عليهم داخليًا؟
يقول السياسي المصري الفلسطيني رامي شعث، مؤسس الفرع المصري لحركة «بي دي إس»، أنّ عدد المشتبكين المصريين مع الشأن الفلسطيني محدود جدًا بالنسبة لحجم المجتمع المصري، وحجم القادرين على الوصول إلى الإنترنت والمشتركين على منصات التواصل الاجتماعي. فلا يمكن أن يُحسَب الدور المصري قيادياً في محاولات تغيير السردية الإسرائيلية، لكنه بلا شك دور مهم وفعّال، وقد قامت شخصيات عديدة بمجهودات معتبرة وطرحت سرديات ونقاشاً مختلفاً وساعدوا في النشر على نطاق واسع. كما يجب الأخذ بالاعتبار أن الجزء الأكبر من الاشتباك المصري في الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي كان باللغة العربية، وبالتالي فالمساهمة في تغيير السرديات باللغات المختلفة، ربما كان أقل تأثيرًا، على الرغم من وجود مصريين بالخارج ممّن اشتبكوا بلغات البلدان المقيمين بها.
أما الصحافية اللبنانية جوي سليم، فترى من خلال مشاهداتها لمواقع التواصل الاجتماعي أن المصريين هم من أكثر الشعوب العربية الذين تبنوا حملات المقاطعة بشكل جدي وطرحوا بدائل محلية عديدة لم نكن نعلمها. وتعتقد أنهم لعبوا دورًا كبيرًا من خلال الضغط الإعلامي وإنتاج المحتوى الرقمي الداعم لفلسطين، ودللت على المجهود الإعلامي المبذول من خلال ثلاثة نماذج: مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورجان، ومواجهة رحمة زين لمذيعة السي. إن. إن. أمام معبر رفح، وحلقة أحمد الغندور في برنامج الدحيح. كما لمحت أيضًا إلى الدور الذي لعبته الكاتبة المصرية ميرنا الهلباوي من خلال مبادرة «ربط غزة بالعالم الخارجي» التي تمكنت من تأمين شرائح هاتفية إلكترونية لقطاع غزة بغرض إبقائهم على تواصل مع العالم بعد أن قطعت إسرائيل عنهم الاتصالات أكثر من مرة.
تتفق الناشطة والباحثة الفلسطينية منى شتية، وهي زميلة غير مقيمة بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، مع جوي سليم، في فكرة أن الحملات الإعلامية والرقمية التي شاهدناها في الوطن العربي ساعدت في رفع الصوت والتعبير عن مواقف الشعوب، وأن الأفعال والتصرفات التي تصدر من النشطاء والصحافيين المصريين تؤثر وتساهم بشكل فعّال في إعلاء الرواية الفلسطينية عمّا يدور في غزة.
أمّا الناشطة السورية شهد البارودي، وهي مدافعة عن حقوق الإنسان مقيمة بالسويد، فتختلف في تقييمها لدرجة تأثير الشعب المصري من خلال حملات المقاطعة أو التضامن الشعبي. فمن وجهة نظرها، كان تأثير الشعب المصري مهمًا وكبيرًا بحكم عدد السكان، لكنه لم يكن قائدًا كما من قبل ولم يفعل المصريون أكثر مما فعلته بعض شعوب المنطقة مثل الأردن وتونس والجزائر. وتضيف البارودي: تعودنا من الشعب المصري دور القيادة والوجود والتأثير بشكل أكبر من هذا، فلنقارن الوضع الآن بمثيله في حرب غزة 2012 مثلًا، أو حتى قبل ذلك، كان الحراك المصري أكبر وأشمل وأكثر وضوحًا وقيادة. ثم أردفت: لا أستطيع لوم الشعب المصري فهم مقموعون أيضًا.
يلفت الصحافي والناشط الحقوقي اليمني، نجم الدين قاسم، الانتباه إلى ما أسماه محاولات للفتنة والوقيعة بين الشعب المصري تحديدًا وباقي الشعوب العربية، من خلال جيوش إلكترونية تعلّق بشكل سلبي من أجل زرع الضغينة والشقاق، عن أن مصر خائنة وباعت القضية الفلسطينية وتغلق معبر رفح في وجه الفلسطينيين وتشارك في حصارهم، ومن خلال نشر بعض الأخبار الكاذبة والمضللة. لكن هناك تنبه من النشطاء المصريين على منصات التواصل الاجتماعي لهذه المحاولات، وبدأوا في إنتاج محتوى يوضّح موقفهم من القضية الفلسطينية، كما هناك مساهمة بارزة على منصة انستغرام تحديدًا بمحتوى مرئي بلغات أخرى غير العربية.
في تحرّكاتهم التضامنيّة مع فلسطين، يصطدم المصريّون باستبداد داخلي لا يقلّ وحشية وهمجية عن سلطة الاحتلال. تكفي الإشارة إلى قرار المحكمة العسكرية بالإسماعيلية يوم الأحد الماضي 25 تشرين الثاني 2023، بحبس 4 متهمين جدد من أبناء القبائل في شمال سيناء، على ذمة القضية رقم 80 لسنة 2023، ليرتفع بذلك عدد المتهمين إلى 47 متهمًا، على خلفية تظاهرات «حق العودة» التي طالب فيها آلاف السكان بالعودة إلى مناطق رفح والشيخ زويد، بعد سنوات من تهجيرهم قسرًا من قوات الجيش، بغرض تمشيط المنطقة وتطهيرها من الإرهاب.
عندما نسمع «حق العودة» نفكّر بفلسطين، لكن مع النظام المصري الحالي، أصبح الأمر مُلغزًا. فهذا ما بات يواجهه المصريون، بسبب التهجير القسري من مناطق حدودية مع فلسطين، والقبض على المتضامنين من المتظاهرين السلميين في الشوارع والميادين. شتان بين من يتولى مقاليد الحكم ومن يسعون للتغيير.