حين يهتف الشارع 14 و8 عملوا البلد دكانه، فهذا يعني أنّ فريقَيْ 8 و14 آذار شريكان في الوصول إلى الأزمة السياسية والاقتصادية التي وصلنا إليها. هما مسؤولان بسبب ما ارتكبه كلٌّ منهما، وهما مسؤولان بسبب الانقسام الحادّ الذي أصاب البلد بالشلل، من دون أن يتمكّن أو يرغب أيٌّ منهما في ابتكار تسويةٍ تعيد العجلة السياسية والاقتصادية إلى الدوران.
لكنّ هذا الهتاف وما يعنيه من تحميل مسؤوليات للطرفَيْن، مختلفٌ تماماً عمّا تُضمره صرخات التحذير من عودة انقسام 14 و8 آذار، كإحدى النتائج السلبيّة للثورة. في الظاهر، يتشارك الهتاف والتهويل مخاوفهما من عودة هذين الفريقَيْن والانقسام بينهما. أمّا في الواقع، فليس هذا التهويل مختلفاً عن الهتاف المناهض لـ8 و14 وحسب، بل هو معاكس له أيضاً. الهتاف هو للمستقبل. أمّا التهويل، فبالماضي. الهتاف هو ضدّ الانقسام. أمّا التهويل، فهو دفاعٌ عن الحكم الواحد.
فلنعُدْ قليلاً إلى الوراء. لم يخفت انقسام 8 و14 في لبنان بسبب تحلُّل الطرفين، بل لأنّ طرفاً انتصر على الآخر. لقد حسم حزب الله المعركة لصالحه، عبر استخدام سلاحه فوق الأراضي اللبنانية ثمّ فوق الأراضي السوريّة، قبل أن يطلب من الآخرين الاستسلام. فوافق كلٌّ من الأطراف الأخرى، وإن على مضض، على تسويات اقتصادية أو أمنية أو سياسية. تسويات رسمت الملامح السياسية لولاية ميشال عون. يعرف حزب الله ذلك جيّداً. وحده ميشال عون، الرئيس القوي، هو من يصدّق أنّه رئيس قويّ بقوّته، وأنّه بفضل هذه القوّة تمكّن من توحيد البلد وتجاوُز الانقسام الذي أنهكه. لذلك، فإنّ عودة 8 و14 لا تعني في عُرف المهوِّلين عودة الطرفَيْن الآفلَيْن، بل تعني أنّ ثمّة خطراً على السيطرة الكاملة التي أرساها حزب الله بعد انتصاره. وهذا ما يستدعي دقّ النفير. فالثورة أو «الحراك»، حدودها مصرف لبنان. حدودها مكافحة الفساد في دهاليز القضاء.
حين تقوم ثورةٌ أو انتفاضةٌ أو حراك أو أيّ هبّة شعبيّة، فإنّ الطرف المتحكّم بمفاصل اللعبة السياسية لا يمكن أن يكون خارج مساحة الغضب. لكنّ الثورة هي ملتقى قنواتٍ متعدّدة لهذا الغضب. والثورة خيالٌ يتحوّل فيه هذا الغضب إلى فعل. لقد استجمعت القوى المنضوية سابقاً ضمن تجمّع 8 آذار أسباباً متعدّدة للغضب عليها، تتراوح بين اتّهامها بالإجرام إلى الفساد والعنجهية وبثّ الكراهية. أسبابٌ قد لا تكون كلّها متعلّقةً بعداء 14 آذار لها. فـ8 لم تعُد 8، و14 لن تعود 14. لكنّ الغضب هو الغضب.
يحاول مُطلقو هتاف 14 و8 عملوا البلد دكانه أن يفتحوا بهتافهم آفاقاً لتخيُّل مستقبل لا يتحكّم به هذان الطرفان أو أيٌّ من أشباحهما. أمّا المهوِّلون بعودة الانقسام، فهم أنفسهم من هوّلوا في بداية الثورة بالحرب الأهليّة. لا حجّة لديهم ضدّ آفاق التغيير إلا تلك الحجج المستقاة من الماضي وأشباحه. فالمطلوب هو تأبيد الحاضر لتأبيد أسياده، عبر الإيهام بأنّ المستقبل ليس موجوداً إلا بصفته ماضياً مستعاداً.