«كل هامش هو متنٌ قائم بنفسه. وإنّ كل تفصيل يردنا من غزّة يكشف واقعاً جديداً». من هذا المنطلق ينظر سمير سكيني إلى مئات الأخبار التي ترد يومياً من غزّة، لنزع صفة «الأخبار» عنها. ومنها، وبلقطةٍ معكوسة، ينظر إلى المراسلين أنفسهم. هذه محاولة لمتابعتهم في سياق عملهم اليوم، أبعد من الإطار الذي يرسم حدود الخبر، وتالياً، أقرب إلى الواقع.
تقديم: جولة على العقد الأخير
حرب الـ2014 على غزّة أذكرها، بشكلٍ عام، عبر شاشة «الجزيرة». أذكر التلفزيون في منزلنا، وأذكر المشاهد اليومية والهواء المفتوح. أذكر بشكلٍ ضبابي الإطار نفسه والشريط الأحمر، ومراسلين يتبدّلون، وخوذاً زرقاء. والقتل. وأصوات الغارات المرتفعة.
مرّ عقدٌ من الزمن، أشبه بالعقود. أذكر أيضاً أنّ تلك هي الفترة التي تورّطنا فيها بشكلٍ كامل بمنصّات السوشيال ميديا. كان الفيسبوك من يوميّاتنا– حتّى ألعاب الحاسوب أصبحت مرتبطة بالفيسبوك، حيث تُنشَر دعوات الانضمام للعبة، وإعلان عن الجائزة التي حزتَ عليها في «حرب المافيا»، وصورة المحصول من «فارم ڤيل»، وطلب استلاف أموالٍ افتراضية في «تكساس بوكر». كنّا قد دخلنا عالم الـ3ج للتو، والواتساب بات يمشي معنا خارج المنزل. والمنصّة الأحدث كانت الانستغرام. أذكر أنّني أنشأتُ حسابي على انستغرام في تلك الفترة.
وإذ كانت شاشة التلفزيون تعرض أمامي وقائع الحرب، وإذ كنتُ منها أفهم أنّ حرباً تدور في غزّة، على غزّة، خطر لي أن أنقل هذه المعلومة عبر حسابي المستحدث على الانستغرام، فنشرتُ الصورة التالية:
لا أذكر اليوم بمَ كنتُ أفكّر تحديداً آنذاك، خاصّةً أنّ الحساب المستحدث كان شبه خالٍ من المتابعين. لا أذكر انطباعاتي الماضية أمام الصورة، ربّما أعجبتني استيتيكياً لا أكثر. لكنّي أجلس أمامها الآن، وبعينِ اليوم، يمكنني أن أحدّد ثلاثة انطباعات عريضة تجاه الـــــــــــ [شخَرَ الصاروخ خارج نافذتي للتو. الأرجح أنّ هذه الغارة استهدفت المبنى الواقع على طريق صيدا القديمة، والذي كان جيش الاحتلال قد لوّنه بالأحمر على خريطة التهديدات اليومية].
أعتذر على المقاطعة.
كنتُ أقول أنّ ثلاثة انطباعات خطرت لي اليوم أمام الصورة:
- أنّها ليست صورة حرب. أو على الأقل إنّها صورة بعيدة عن الحرب. لا دمار أو قتل أو دم فيها، مجرّد غيمة في البعيد، من دون خصائص تحدّد طبيعة النقطة المستهدفة.
- أنّ موضوع الصورة ليس «الحرب»، بل «النظر». قل، الفرجة، أو بالأحرى «التحديق» إن كنّا نودّ التشديد على فاعليّة المتفرّجين. وفي الصورة مقاتلون ينظرون، ويبدو أنّهم من عصرٍ سابق، ببواريد قديمة، الأرجح أنّهم فلسطينيون، منخرطون بمعركةٍ ما.
- أنّ الصورة عابرة للزمن.
الذي يفصل الحقل الأمامي عن الحقل الخلفي ليس تفاوتاً مكانياً وحسب، بل هو أيضاً تفاوت زماني. وتفتح هذه الهوّة الزمانية مجالات جديدة لتأويل الصورة، أبسطها كيف أنّ الصراع ضدّ الاحتلال مستمرّ حتّى اليوم، وكيف أنّ المقاومين الذين يتفرّجون على الغارة يتحضّرون للانقضاض على المحتلّ. وأنّ رغم الزمن، لم تتغيّر الأحوال. حتّى أنّ واقعَ تحديقنا بهذه الأحوال لم يتغيّر، ولكن تغيّر شكلُ هذا التحديق. بتعبيرٍ آخر، تبدّلت العلاقات البصرية التي تربطنا بالواقع، وتالياً علاقتنا بهذا الواقع وفهمنا له.
تابعنا إذاً حرب الـ2014 على التلفزيون، بشكلٍ أساسي. كان دور وسائل التواصل الاجتماعي في تغطية هذه الحرب خجولاً، أو على الأقل ثانوياً. وذلك لأسبابٍ عديدة، منها أنّ هذه الوسائل لم تكن قد انتشرت بعد كما هي اليوم؛ ومنها مسألة الانترنت والانتقال من الواي-فاي المنزلي آنذاك إلى شبكات الـ3ج المتنقّلة اليوم؛ ومنها أنّ المنصّات الإخبارية كانت لا تزال تسكن التلفزيون حصراً، وأنّ ما يُسمّى بالإعلام البديل الذي يَعتمد وسائل التواصل كمنبرٍ أوّل، كان لا يزال في طور التأسيس؛ ويمكن حتّى القول إنّ المراسلين أنفسهم كانوا لا يزالون أولئك المراسلين «التقليديين»، «المخضرمين»، «التأسيسيّين» (؟)، أفكّر مثلاً بوائل الدحدوح وجيفارا البديري ووليد العمري، والشهيدة شيرين أبو عاقلة، وغيرهم ممّن أسّسوا مسيرتهم الإعلامية بعيداً عن الشاشة الصغيرة.
أسبابٌ عديدة إذاً (يمكن اختزالها تحت قبعة «التطوّر») أدّت (تقريباً) إلى حصر حرب الـ2014 بعالم التلفزيون. وأقدّر من جهتي أن وسائل التواصل الاجتماعي قد دخلت على الخطّ، في الملف الفلسطيني عموماً وتحديداً في ما يخصّ غزّة، في العام 2018 - 2019، مع مسيرات يوم العودة.
إن أردنا الاختزال أيضاً، يمكن القول إنّ السبب يعود إلى «التطوّر». هكذا تطوّرت الأمور وهكذا صرنا نتّكل شيئاً فشيئاً على هواتفنا الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، ما يجعل من الطبيعي أن نتفاعل مع أي حدثٍ كان عبر الشاشة الصغيرة، وليس عبر شاشة التلفزيون فقط. تدخل هنا مسألة الأجيال في الحسبان أيضاً. أفكّر بهذه المواضيع من موقعي كمواليد التسعينات، فيما سوف يختلف الأمر تدريجياً وباتّجاهَين معاكسَين كلّما انتقلنا بشريحةٍ عمرية إلى أعلى أو أسفل.
إن أردتُ التفكير بالأمر قليلاً، يمكن أن أقول إنّ امتداد مسيرات العودة على فترةٍ زمنيةٍ طويلة نسبياً، ساعد باحتلالها حيّزاً من عالم وسائل التواصل الاجتماعي. فنحن لا نتكلّم هنا عن خبرٍ عاجلٍ أو حرب آنيّة بحاجة إلى تغطية سريعة ومُراسلي حرب، بل عن تحرّكٍ شبه أسبوعي: سوف يتمّ التحضير للتحرّك المقبل سلفاً، بل أيضاً، سوف تتمّ الدعوة إليه. وسوف تُنقَل هذه الدعوات عبر وسائل التواصل. سوف يتحضّر المصوّرون على مهل. سوف يتمّ التداول بصوَر التحرّك الماضي، ولفرط ما استمرّت هذه التحرّكات، اكتسبت صورها طابعاً «أبدياً»، بل أنّ بعض هذه الصوَر قد تأيقَن.
كلّنا نعرف صورة الشاب عاري الصدر الذي يرمي حجراً بالمقلاع.
بالسياق نفسه، بعد 6 سنوات على تلك المحطّة، وعلى وقع السابع من أكتوبر، من المثير أن تكون وسائل التواصل قد أعادت تدوير فيديو ليحيى السنوار من «جمعة الكاوتشوك» نفسها، خلال مسيرات يوم العودة، يومَ توعّد «باقتلاع الحدود». يظهر من جديد هذا الطابع «الأبدي» الذي يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تضفيه على لحظةٍ زمنيةٍ ما.
بعد عامَين على مسيرات العودة، سوف تقتحم المسألة الفلسطينية وسائل التواصل الاجتماعي من جديد، مع هبّة الشيخ جرّاح، ويمكن القول إنّ هذا الحدث هو الذي شكّل نقطة تحوّل في تراتبية التلفزيون/ مواقع التواصل. من جهتي، لا أذكر ماذا شاهدتُ عبر شاشة التلفزيون عن هبّة الشيخ جرّاح، لكن ما زلت أجد في الـ«انستاغرام ستوري أركايف» والـ«فيسبوك ميموريز» كل الموادّ التي نشرتها عن الموضوع آنذاك. كما أجد في الـ«بوكماركس» كل ما حفّظته عن الموضوع كي أعود إليه لاحقاً.
السبب هنا لا يعود إلى «التطوّر» وحسب، بل إلى طبيعة الحدث، والفئة العمرية للأشخاص الذين عملوا على تدويل المسألة وتعميمها ونقلها من الخاصّ إلى العامّ؛ أقصد الأخوَين محمد ومنى الكرد. وقد استطاعا إعادة تقديم الموضوع في قالب جديد، أكثر «مُعاصَرةً»، وأقرب إلى عقل السوشيال ميديا وشروط الخوارزميات.
وعلى عكس التلفزيون، حيث لكل قناة جمهورها ولكل جمهور قناة يتابعها دون سواها، يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تُساعد بتعميم الموضوع وإيصاله إلى فئاتٍ أجدد، أوسع من «الجمهور الملتزم»، فئات غير مطّلعة على الموضوع من الأساس. يُضاف إلى ذلك مفهوم الـ«ترند»: كلّكم تذكرون المستوطن يعقوب مثلاً، وقد تحوّل إلى ميم ما زالت قيد التداول حتّى اليوم على وسائل التواصل، وهذا ما لا يمكن للتلفزيون أن يفعله.
بالسياق ذاته، يمكن العودة إلى مقابلة محمد الكرد التلفزيونية، يوم «أفحم» المُذيعة بجوابه حول تأييدها طرده من منزله. ومع أنّها مقابلة متلفزة، إلّا أنّها راجت فعلياً لا عبر شاشة السي. أن. أن، بل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، انطلاقاً من حساب محمد نفسه.
عطفاً على موضوع الشيخ جرّاح: بعد عام، سوف يغتال قنّاص إسرائيلي مراسلة «الجزيرة» شيرين أبو عاقلة، إثر تغطيتها اقتحام مخيّم جنين في الضفّة الغربية يوم 11 أيّار 2022. والصورة التي سوف يتمّ التداول بها لتذكّر شيرين ورثائها، هي صورتها على كرسي في حيّ الشيخ جرّاح، مع التعليق الذي أرفقته بالصورة: وهي قاعدينلهم.
إلى جانب التداول بهذه الصورة، اقتبس آخرون منشوراً لشيرين من الفترة ذاتها: «بدها طول نفس،،، خلي المعنويات عالية». بالحالتَين، «الخبر» في رثاء شيرين هو بالحقيقة موقف نشرته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وليس تعليقاً لها ورد في إحدى التغطيات مثلاً، على شاشة التلفزيون.
وها نحن اليوم؛
وفق المنطق الذي تعالج فيه هذه المادّة بعض جوانب التغطية الإخبارية للقضية الفلسطينية، قد تكون الجملة المفتاحية ما ورد في مداخلة المحامية الأيرلندية بلين ني غرالاي، أمام محكمة العدل الدولية، بتاريخ 11 كانون الثاني 2024:
يستمرّ المجتمع الدولي بخذلان الشعب الفلسطيني [...] رغم فظاعة الإبادة بحقّه، والتي تُنقَل بالبثّ الحَيّ من غزّة إلى هواتفنا المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وشاشات التلفزيون. هذه أوّل إبادة في التاريخ حيث ينقل الضحايا هلاكهم الخاص، بالوقت الحقيقي، بيأسٍ، وحتّى الآن بأملٍ ضائع تجاه تحرّك العالم.
اللفتة هنا إلى أنّ «هواتفنا المحمولة» قد حلّت بالمقام الأوّل، ثم أجهزة الكمبيوتر، ثم شاشات التلفزيون. نتلقّى الأخبار أوّلاً عبر هذه الشاشة الصغيرة، بحكم «تطوّر» الأمور إيّاه. ولا تهمّنا الأسباب التي أدّت الآن إلى تصدّر الشاشة الصغيرة على شاشة التلفزيون، إنّما، ما يهمّ، هو البحث بما تبدَّل مع تبدُّل موقع الشاشتَين. ما المساحة الإضافية التي فتحتها وسائل التواصل الاجتماعي في عالم الأخبار؟ ما المساحة المفتوحة أمام المتلقّي، ولكن أيضاً، أمام المراسل؟
بشكلٍ أكثر تحديداً، تبحث هذه المادّة بما يُضاف / يُحذف بين الشاشتَين، عند النشر. وفكرة «النشر» هنا تطال ما هو إخباري وما هو ليس كذلك. بيدَ أنّ السياق الحالي ليس سياقاً عادياً، نحن نتكلّم عن إبادة، عن درجةٍ من العنف غير المسبوق، وعن شكلٍ من العنف المعمّم الذي يطال كل ما هو موجود في غزّة، ضمناً، الصحافيين— بل تحديداً الصحافيين؛ ما يحوّل أي مادّة تُنشَر إلى مادّة «إخبارية» إن دقّقنا بها بما فيه الكفاية، حتّى ولو كانت صورةً تذكاريةً لهم، أو تعليقاً لهم على منشورٍ ما، أو مزحةً تداوَلوها بين بعضهم بعضاً، أو دُعاءً نشروه، أو مجرّد تعبيرٍ عن خواطرهم، عن التعب، عن الأمل– أو انعدامه. وكذلك ما نعتبره عادةً «خارج الخبر»، مثل تعليقهم على صعوبة العمل الصحفي في غزّة وخطورة الظروف، والشقاء الذي تطلّبته تغطية حدثٍ ما؛ في غزّة، هذه «الهوامش» تصبح بنفسها خبراً أساسياً. كل هامش هو متنٌ قائم بنفسه. كل تفصيل يردنا من هناك يكشف واقعاً جديداً. ومُحيط العمل الصحفي، يكاد يوازي العمل الصحفي نفسه من حيث الأهمية. ومسؤوليتنا، بل الحد الأدنى من هذه المسؤولية، هو التوقّف عند هذه التفاصيل والتحديق بها والتنقيب بين طبقاتها العديدة.
إذاً هذا ليس تحليلاً. الإبادة لا «تُحلَّل» حقّاً. الدم واضح. هذا ليس نصّاً أدبياً، ولا مقالاً، ولا مراجعة ولا هو نصّ أكاديمي. إنّه ببساطة تمرين. تمرين للتمعّن بما نراه بشكلٍ فاعل، actif. بل إنّه أبسط من ذلك، هذه المادّة مجرّد قصّة، قصص، تجميعٌ لقصصهم هم، مراسلي الحرب، وترتيبها بشكلٍ يكشف بعض التفاصيل الثانوية لا أكثر. يمكن القول أيضاً إنّ هذه مادة أرشيفية، تجمع نوعاً معيّناً من المحطّات التي عاشها مراسلو غزّة.
قسّمتُ هذه القصص ضمن ثلاث فئات عريضة: 1) محيط المادّة الصحفي، وهو الجزء الذي يبحث بهوامش الموادّ الإخبارية؛ 2) مساحة التفكّر، وهو الجزء الذي ينظر إلى مسافة الصحافي تجاه الخبر الذي صنعه للتوّ؛ 3) القيمة الاجتماعية للصحافي، وهو الجزء الذي يتناول علاقة مراسلي غزّة بالناس من حولهم، كما تبدو عبر موادّ هم نشروها.
1) محيط المادّة الصحفيّة
أ) الألفة والمزاح
أبدأ بجانبٍ خفيف: تنشأ بين مراسلي الحرب ألفةٌ من نوعٍ فريد. ألفةٌ شكّلتها المأساة، وخفّةٌ تُحيل إلى ثقلٍ ما. فماذا إن كان المُراسلون في ظروفٍ إبادية؟ تحديداً في فلسطين، غزّة. هذه المجموعة التي أدركت أنّ عملها يعرّضها لخطرٍ أعظم، وأنّ الجماعة التي تنتمي لها عموماً، تواجه خطر المحو. ومع ذلك– بل تحديداً لذلك، أصرّوا على توثيق كل شيء.
أبدأ إذاً مع مثلٍ يتناولهم كمجموعة، قبل أن نتابع أمورهم كأفراد. وأختار أن أبدأ بهذا الفيديو أيضاً، لما فيه من ضحكٍ ومزاح، قبل أن ننتقل إلى رائحة الموت.
View this post on Instagram
يندر أن نرى «مجموعة» من الصحافيين على التلفزيون، ولكنّنا ها نحن، نراهم سويّاً، بفيديو نشروه على انستغرام. شاشة التلفزيون لا تستقبل أكثر من فردٍ واحد (مع أنّ «إنتاج» الخبر يتطلّب مجموعة بالحقيقة). عبر متابعة شاشة «الجزيرة» مثلاً، نتعرّف إلى المُراسل أنس الشريف فقط، مثلاً. لكن عند متابعة حسابات أنس على مواقع التواصل الاجتماعي، نراه في معظم الأوقات برفقة شخص آخر (هو في هذه الحالة محمود شلحة أو فادي الوحيدي). نتعرّف إلى «المجموعة». عبر الشاشة الصغيرة نفهم بشكلٍ أوسع روحية العمل الجماعي، ومشاركة المخاطر، والعلاقة التي تنشأ بين المراسلين أنفسهم وليس فقط بين كلّ مراسل ومصوّره. وهذا بُعدٌ من الأبعاد التي يحجبها التلفزيون غالباً. عبر الشاشة الصغيرة نفهم أن أنس يرافقه محمود، أو فادي، وأنّ اسماعيل [كان] يرافقه رامي، وهكذا دواليك.
فلنعد إلى الفيديو. قد يعتبر أحدهم أنّ هذا الفيديو هو مجرّد مزاح بين أصدقاء. حتّى أنّ موقع «الجزيرة» عند نشره، عنوَنه «كوميديا سوداء لصحفيي غزّة». إنّما بسياقٍ كما هو سياق غزّة، يكثّف هذا الفيديو عشرات التقارير الإخبارية. إذا كانت طبقته الأولى «كوميدية»، فإنّ خلفها طبقات إخبارية تكشف سياقاً أوسع.
من خلال نكاتٍ قليلة وسهلة التلقّي، نفهم أنّ:
- «لا سيّارات تنقلنا»، وأنّ كل منطق المواصلات الذي نعرفه قد تمّ القضاء عليه في غزّة، ما يجعل كلّ المراسلين يركبون في السيّارة الواحدة المتوفّرة؛ ويضيف أنس، ممازحاً: «ما حصلتش في التاريخ انه واحد يقعد جنب السواق»— إلى جهة اليسار، يقصد؛
- حتّى لو كان لباقي المراسلين سيّارات، فلا وقود في غزّة يكفي، إلّا لمن يحالفه حظ وظروف تأمين الوقود، وهو في هذه الحالة أنس الشريف؛ فيقول أحدهم «البنزين في البلد انقطع نهائياً»، ويردّ آخر «السولار بدك قرض اله»، فنفهم أنّه حتّى لو توفّر فإن سعره غالٍ؛
- «أبو وائل نايم… صحي اليوم من الـ8 ع التغطية»، فنفهم شدّة التعب وكثافة الأخبار مقابل قلّة المراسلين، ما يجعل يوم التغطية العادي لمراسل مثل أبو وائل (إسلام بدر، التلفزيون العربي) هو اليوم بطوله من الصباح وحتّى الصباح التالي، وما يجعل أنّ الإرهاق الذي سيصيبه، سيدفعه إلى الغفو حتّى في سيارةٍ فيها 8 أشخاص؛
- «يا مسهّل يا رب»، يقول مصوّر الفيديو، ثم يؤكّد أنس: «انشالله ربنا معنا انشالله ربنا معنا»، وتتتالى الدعوات، رغم أنّ التنقّل بالسيارة من مكان إلى آخر هو فعل «عادي» لا يحتاج عادةً إلى مثل كل هذه الدعوات. لكن هذه العبارات، في هذا السياق، تجعلنا نفهم كمّ المخاطر المحدقة بهذه المجموعة، كونها في غزّة عموماً، وكونها تتنقّل ليلاً، وكونها جميعها في سيارة واحدة، وكونها، أوّلاً وأخيراً، مجموعة من المراسلين الصحفيين.
- ثم يقول فادي: «ربنا مضعّفنا. لولا المجاعة، والله ما قعدنا هالقعدة». هذه الجملة التي استدعت عنوَنة الفيديو بـ«الكوميديا السوداء»، هي بالحقيقة *الـ* خبر. ويضيف كلّ منهم قسطه على النكتة: «كل واحد منّا ضعف 7، 8 كيلو»، «أبو صالح ضايلّه مجاعة وحدة وبيبطّل، بيصير هيكل عظمي».
فيديو السيارة وصورة اللعب، يُظهران الصحافيين في سياقات «غير صحفية»، لكنّها في الوقت عينه سياقات «شديدة الصحفية».
أضف إلى ذلك أنّها سياقات عادية للغاية، دنيوية، «إنسانية»، بعيدة عن المهنة وماكينة الإعلام. حتّى أنّ إسلام نفسه في التعليق المرفق للصورة يذكر أنّها «فرصة عابرة… من اللحظات القليلة بدون درع الصحافة». المفارقة هنا ليست درجة «عادية» هذه اللقطات، بل غيابها عن شاشة التلفزيون رغم أنّها «عادية» للغاية وجزء أساسي من الواقع الذي يدّعي التلفزيون نقله كما هو؛ الأمر الذي يحوّل المراسلين على الشاشة الكبيرة إلى ما يشبه الآلات المعلّبة بدورٍ محدّد، ما يحذف بالتالي بُعداً إنسانياً عن الصحافيين. «يطهّرهم». تماماً كما تطهّر الجريدة اللغة: لا تجد ولو شتيمة واحدة بالصحف اليومية، مع أنّ كلام الناس مليء بالشتائم. هكذا إذاً، يشبه المراسل على التلفزيون آلة، بينما تسمح لنا الشاشة الصغيرة بالتعرّف إليه كشخصٍ موجودٍ بذاته بمعزل عن وظيفته، يمزح، يلهو، يتهكّم عبر وسائل التواصل تحديداً على الخبر الذي ينقله بجدّية عبر شاشة التلفزيون كمراسل، وذلك من أجل أن يتحمّله، بصفته شخصاً عادياً يخضع لهذه الإبادة. العلاقة هنا تدور بالاتّجاهَين: من جهة، تفتح السوشيال ميديا نافذةً على مراسلي الحرب بصفتهم «العادية»؛ من الجهة الأخرى، يتحوّل كل فعل عادي إلى مادّة خبرية. يجد المراسل نفسه «مضطراً» إلى نشر صورته وهو يقوم بفعلٍ «عادي»، ويُشير إلى أنّه الآن «يقوم بهذا الفعل العادي»، وكأنّ أي تفصيل (مهما كان عادياً) خارج دوره الصحفي، يصبح استثناءً يستأهل أن تتمّ الإشارة إليه.
ب) الخبر الوارد في تقاطع الأخبار
منطق «المجموعة» في غزّة هو نفسه في الكواليس وأمام الكاميرا.
هذا درسٌ للعالم، في عالم الصحافة والإعلام. لا «سبق صحفي» هنا، لا مراسل يفضّل أن «يلمع» أو أن يسبق إلى «القصّة». ما هو أمامهم ليس «قصّة». هو الواقع إيّاه. المسافة بينهم وبينه معدومة. صعبٌ إقامة هذا التضاد هنا، فالشاشة قائمة على تحويل كل شيء إلى قصّة، إلى خبر، إلى مادّة. وهم مصرّون على العكس: هذا هو الواقع.
إذاً منطق المجموعة هو نفسه وراء الكاميرا وأمامها. يتحرّكون سويّاً ويعملون سوياً ويحرصون على نقل الواقع بشكلٍ أمين، بصرف النظر عن قنوات عملهم. يعملون كمجموعةٍ واحدة. ومع أنّ لآلية العمل هذه منافع أو على الأقل ضرورات عديدة، إلّا أنّ لها خطراً جسيماً: قد يطال استهدافٌ واحدٌ الجميع. تماماً كما حصل قبل أيّام، عندما استهدف الاحتلال سيّارة إعلامية فيها خمسة مراسلين صحفيين أمام مستشفى العودة، فقتلهم جميعاً. أو تماماً كما حصل في جباليا، قبل أشهر.
بتاريخ 13 أيار 2024، استهدفت غارة إسرائيلية تجمّعاً للصحافيين في غزّة، في جباليا. حدث ذلك بعد أن هرع الصحافيون بجانب فرق الإغاثة إلى موقع غارةٍ أولى لمتابعة الوضع، ثم استُهدفوا. من مكتبي، في بيروت، بدأتُ أجمع الفيديوهات التي نشروها عبر صفحاتهم كي أعدّ الخبر: «الاحتلال يستهدف صحافيي جباليا وأطقم الإغاثة بشكلٍ مباشر».
في الاعتداء المذكور، وبعد جمع الفيديوهات، وفي محاولةٍ لترتيبها بتسلسلٍ زمني، سمعتُ في الفيديو الأوّل صوت المصوّر: «استهداف علينا». في الفيديو نفسه، سمعتُ بالخلفية صوتاً آخر، أيضاً يقول: «استهداف علينا». ثم انتقلتُ إلى الفيديو الثاني:
الزاوية مختلفة، الدمار شبيه، والصوت الذي كان يصدح في خلفية الفيديو الأوّل بات الآن– في الفيديو الثاني– صوت المصوّر نفسه. أمّا صوت مصوّر الفيديو الأوّل، فصار هو صوت الخلفية في الفيديو الثاني. الفيديو الثالث، والرابع، وهكذا دواليك. حتّى أمكن عرض الفيديوهات جميعها في الوقت عينه، لتُسمَع الأصوات نفسها في الفيديوهات جميعها، مع تفاوت مسافتها تجاه مصدر الصورة وتفاوت الزاوية.
العبارة هي هي: «استهداف علينا». لكنّنا نسمع في الفيديو نفسه العبارة كخبر من قبل المراسل نفسه مرّة، ثم نسمعها كـ«خلفية» للخبر من قبل مراسلٍ آخر، والأخير، بدوره، يقولها كخبر عبر شاشةٍ أخرى؛ هذا التناوب، هذه التبدّلات بتلاوة الخبر الأوّل، تكشف بدورها خبراً ثانياً، طبقة أخرى من الواقع.
View this post on Instagram
View this post on Instagram
View this post on Instagram
View this post on Instagram
نصبح هنا وسط ما يمكن تشبيهه ببوليفونية باختين (bakhtin's polyphony، أو ما يُترجَم حرفياً بـ«تعدّد الأصوات»).
وهي، بشكلٍ مقتضب للغاية، وسيلة للسرد لاحظ الناقد الروسي ميخائيل باختين حضورها بشدّة في روايات دوستويفسكي، حيث يعمد الكاتب إلى منح كل «شخصية» صوتها الخاص، فيُنقل الواقع بناءً على الأصوات العديدة لهذه الشخصيات، فتكتسب وسيلة السرد هذه عمقاً بفعل هذه التعدّدية وتبدّل الزوايا. لا يهمّنا باختين هنا، لكنّ النظر إلى العبارات الواردة في خلفية الخبر على أنّها جزء من الخبر نفسه، يخلق عمقاً إضافياً على فهمنا للواقع الذي نراه.
ج) وضعية الصحافي كخبر
هذا التطابق / التعدّد في العبارات يظهر بشكلٍ أوضح في مثلٍ آخر: نشاهد في الفيديو المراسل أنس الشريف وهو يعدّ خبراً (الأرجح للتلفزيون) عبر تلفون المصوّر، زميله محمود شلحة (وليس عبر كاميرات النقل المباشر). للحظةٍ أولى، يبدو أنّ الخبر هو «توغّل وتقدّم إلى عمق مخيّم جباليا وسط اشتباكات عنيفة…».
فقط في لحظةٍ ثانية نلاحظ أنّ هذا هو الخبر الخاصّ بالفيديو الذي يصوّره محمود شلحة، داخل الفيديو الذي نشاهده نحن، الذي يصوّره فادي الوحيدي والذي يُظهر كلاً من المراسل أنس والمصوّر (الأوّل) محمود. ثم بعد ثوانٍ، يقول فادي من خلف الشاشة: «تمكّنا من الوصول إلى أقرب نقطة من الاشتباكات الضارية بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي»، فيما يواصل أنس (الذي انتقل إلى الخلفية الآن) تلاوة ما كنّا نعتقد أنّه خبر هذا الفيديو: «كما نسمع الآن مدفعية الاحتلال تقوم بقصف…». في حالاتٍ كهذه، وعدا عن الطبقات المتعدّدة في المادّة الواحدة، يصبح المصوّر بنفسه مراسلاً.
حتّى في التقارير التي يظهر فيها أنس مباشرةً، لا في الخلفية، نراه يتقدّم من خطّ إطلاق النار، قرب مدرسة إيواء مثلاً، ويقول: «نحن الآن في آخر نقطة يمكن الوصول إليها في هذا المكان. مَن يتجاوز هذا الشارع يتمّ إطلاق النار عليه بشكلٍ مباشر».
تفرض ظروف العمل في غزّة صعوبةً خاصّة وبليغة تجعل من الخبر نفسه مادةً لخبرٍ جديد؛ خبرٌ ثانٍ هدفه أن يُظهر للمشاهد أنّ الخبر الأوّل بـ*هذا* القرب من الواقع. انظروا، لقد صَوّر أحدهم المصوّر وهو يصوّر المراسل الذي يتلو الخبر.
كلّ هذا التدليل الإضافي على الخبر، والذي يُحيل إلى تدليلٍ على حجم المخاطر.
هنا، تصبح وضعية الصحافي بنفسها خبراً، بصرف النظر عن الخبر الذي يتلوه.
بيد أنّ للموضوع وجهاً آخر، مختلفاً تماماً، بل على النقيض.
قلنا للتوّ إنّ هذا «التدليل الإضافي على الخبر يُحيل إلى تدليلٍ على حجم المخاطر»، ولكن هناك إحالة ثانية، لا علاقة لها بصعوبة العمل في العالم الفعلي (غزّة)، بل بصعوبة المنافسة في العالم الافتراضي (السوشيال ميديا): عالم السوشيال ميديا يتطلّب إنتاج هذا الكمّ الهائل من الموادّ، كي «تحجز» لنفسك مقعداً في عالم الخوارزميات. (من المُقيت التكلّم بمثل هذه المصطلحات في ظلّ إبادة، ولكن) هذا هو عقل الـ«دووم سكرولينغ»:
فيديو واحد لأشلاء طفل سوف يغرق بالتأكيد بين عشرات فيديوهات الطبيخ والموضة والتسالي. لكن 10 فيديوهات، أو 100 فيديو، أو 1,000 فيديو، سوف تتمكّن من «المنافسة» والظهور بشكلٍ شبه دوري أمام «المشاهد» الذي يقلّب بلامبالاة في هاتفه المحمول وهو مستلقٍ على أريكته.
لسنا نكتشف البارود هنا، أعلم. هذه المقاربة تنطلي على كلّ المواضيع وهي القاعدة في عالم السوشيال ميديا. ولكن أتوقّف عندها تحديداً، في حالة غزّة، لأنّها صادمة، تُثير الاستغراب/ الاشمئزاز. نحن لسنا نتكلّم عن ألبسة أو مأكولات أو فيديوهات لقطط صنعها الذكاء الاصطناعي. لسنا نتكلّم عن منافسةٍ كي يتصدّر منتجك قائمة المبيعات بفضل الانستغرام. نتكلّم عن إبادة. كيف يعني بدنا نفكّر الألغوريثم شو بيحبّ ونحن عم نحكي عن إبادة؟
المراسل الذي يعتمد حسابه الخاص كمنبرٍ إعلاميٍ موازٍ للقناة التي يعمل فيها، يعلم أنّ عقل السوشيال ميديا مختلف عن عقل التلفزيون: في حالة التلفزيون، المشاهد هو مَن يختار القناة التي يريد، بما يشبه الخضوع الكامل للأخبار التي تبثّها هذه القناة حصراً، فيما يُغرق عقل السوشيال ميديا المستخدمين بشتّى الموادّ من مختلف الحسابات، ما يفرض عليك «إنتاج» موادّ باستمرار كي تصل دائماً إلى مستخدمين جدد.
تخيّل أنّك— فيما تعيش الإبادة، بل حتّى فيما تعمل على تغطيتها— تفكّر بالطريقة الأنسب لحجز مقعد في باص الخوارزميات، كي يبقى موضوع الإبادة حاضراً قدر الإمكان على شاشات المتابعين الصغيرة. تخيّل أنّ هذه مسؤولية تُلقى على عاتق مَن يعيش الإبادة بالفعل؟ هل حقّاً عليك أن تجعلهم يشاهدونك وأن تُقتل، فقط كي لا تُقتَل بصمت؟ وبتعليقِ أملٍ ضئيل بأنّ يتمكّن أحد ما من وقف هذه المقتلة؟
الجمهور يريد أن يرى كلّ شيء. لم تعد تكفيه صورة الإبادة. يريد أن يرى مَن يصنع هذه الصورة. مَن ينقلها. يريد أن يتعرّف إليه. يريد أن يتعاطف مع الموضوع بناءً على ناقل الموضوع. المشاعر تجاه فعل الموت نفسه تتبدّل بحسب شكل الميت، بحسب لهجته، بحسب الصدف التي تحيط بحياته. هناك «توضيب» packaging مطلوب للإبادة كي يتواصل استهلاكها خارج غزّة، كي تستقطب جماهير جديدة على الدوام.
أعتقد أنّ المراسل حسام شبات كان أبرز مَن أدرك هذا الجانب المظلم من السوشيال ميديا، واستغلّه لصالحه. ويمكن ملاحظة ذلك عبر متابعة تطوّر أسلوبه في التغطية، حيث بات يعتمد تدريجياً، أكثر فأكثر، على إسناد موقعه الصحفي بأمثلة من حياته الشخصية، وحيث بات ينشر تغريداته باللغة الإنجليزية، مع الإشارة إلى أنّ هذه الإنجليزية ليست ترجمة محضة لتغريداته العربية، بل هي تتّبع أسلوباً محدّداً يستهدف فئات محدّدة من الجمهور الأجنبي.
يمكن القول إذاً إنّ مراسلي غزّة تمكّنوا من المنافسة، في هذه الجولة، وعرفوا كيفية اللعب على الموضوع. استغلّوا السوشيال ميديا، واستخدموا مساحات ما كان ليفتحها لهم التلفزيون في جولاتٍ سابقة. دَوْزَنوا ما بين الخطاب الإنساني الذي غالباً ما يفرّغ القضايا من محتواها السياسي، من دون أن ينزلقوا إلى ذلك، وبين المشاهد الصعبة والمتكرّرة التي غالباً ما تخدّر المتابعين، أيضاً من دون أن ينزلقوا إلى ذلك. وقد استخدمتُ عبارتَي «المنافسة» و«الجولة» لأنّ إسرائيل بنهاية المطاف، عدا عن الإبادة والحرب التي تشنّها على الأرض، فإنّها تشنّ حرباً موازية في الإعلام. إذاً، مراسلو غزّة لا ينقلون الواقع وحسب، بل يخوضون الحرب الموازية ويواجهون كأفراد أضخم الماكينات الإعلامية في العالم: البروباغندا الصهيونية. كما أنّهم يسعون إلى استقطاب جماهير جديدة، «غير مسيّسة» بعد، وقد شهد العام الماضي نقلةً على مستوى الخطاب العالمي المناصر لفلسطين.
2) مساحة التفكّر
في القسم الأول، رافقنا المراسلين و«الإطار» المحيط بأخبارهم، وكيف أنّ ما يحيط بالخبر يحيلنا بدوره إلى أخبارٍ أخرى، وكيف أنّ التوقّف عندها يكشف أبعاداً من الواقع هي أوسع من الواقع المباشر الذي ينقله الخبر الأساس.
في هذا الجزء، أودّ الإشارة إلى «مساحةٍ» ما، تُخلق بفعل السرعة المفروضة على المراسل في التعاطي مع الخبر، أو، تحديداً، بفعل غياب هذه السرعة. أقصد منطقة مراجعة الأخبار بعد تغطيتها. مساحة التفكّر. وهي مساحة تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي للصحافي، فيما لا تتيحها له شاشة التلفزيون، أو للدقّة شاشة النقل المباشر وعقل «التغطية الساخنة».
لا نتكلّم هنا عن موادّ مختلفة، ولا عن طريقة مختلفة لنقل الموادّ، بل عن نمطٍ آخر من الصحافة. مساحة يطرح فيها المراسل أسئلة عمّا رآه، عوض نقل ما رآه بشكلٍ شبه آليّ. هنا، يتفكّر بالمادة، يتابعها من خارج، ويراجعها.
أذكر على سبيل المثال المراسل إسلام بدر الذي ينشر، بين الحين والآخر، موادّ تقع تحديداً ضمن هذه الفئة. ضمن التساؤلات والمراجعات. وما زالت في ذهني حتّى اليوم جملةٌ افتتح بها أحد هذه التقارير: «دعوني أحكِ لكم ما شاهدته بتركيزٍ أكثر».
View this post on Instagram
واللافت أن هذه المادة تعود تحديداً لفترة تغطية اقتحام جباليا الوارد ذكرها سابقاً. يبدو أن الأحداث اليومية تكثّفت إلى درجةٍ جعلت المراسل يغرق فيها، ويحتاج، *يحتاج* إلى أن يعود في آخر النهار إلى ذاكرة تلفونه ليراجع هو نفسه ما شاهده بالضبط؛ يحتاج إلى أن يخرج من منظومة النقل المباشر؛ يحتاج إلى أن يضع مسافةً تجاه الصورة كي يرى تفاصيلها الثانوية.
في سياقٍ مشابه، نشر إسلام مجدّداً فيديو يبدو أنّه اختفى عن عالم الانترنت مع كتابة هذه السطور. له، وهو يسير بجانب تشييع أحد الشهداء. يتّجه إلى التشييع مع الكاميرا الشغّالة، يصوّر نفسه وهو ينقل الخبر. ويقترب. ثم تظهر له الوالدة مكلومة، تبكي، وأحدهم يواسيها. يُشيح إسلام النظر-الكاميرا، ويستدير باتّجاهٍ آخر. يبتعد قليلاً ويتفكّر، ويبدأ بطرح بعض الأسئلة المتعلّقة بمسألة الخصوصية. أسئلة لا تجد طريقها عادةً إلى عالم التلفزيون. بل هي تحديداً نقيض هذا العالم. وقت الهواء ليس للأسئلة، ليس للتفكّر، هو لفتح الكاميرا ونقل كل ما يرد أمامها، هو لمعاكسة هذه التساؤلات ومراعاة «رغبة» المشاهد. للتلفزيون قوانين ساحقة. وكذلك الأمر للسوشيال ميديا اليوم. ويبدو أنّ «الأمّ البكّاءة» تدرّ اللايكات على صاحب الحساب (أو على المراسل أو القناة).
كل ذلك يساهم بتحويل الواقع إلى مشاهد، فيما حاول المراسل في حالتنا ردّ هذا المشهد إلى عالم الواقع. ابتعد عنه وآخذَ نفسه وسأل: هل فعلاً «يجوز» أن أنقل هذه الصورة، حتّى ولو كانت هي الواقع؟
أحياناً حَجب أقسام من الواقع يبدو أكثر واقعيةً من تحويل هذا الواقع إلى مشهد يدرّ المشاهدات.
مساحة التفكّر تبدو شاسعة، ولا تأتي إلّا عند الابتعاد عن الخبر، عند زرع مسافة محدّدة تجاه الواقع ومراجعته، تماماً كما في المَثَل السابق حيث راجع إسلام ما صوّره في نهاية النهار، ليصل إلى «نتيجة» جديدة أوسع ممّا كان قد نقله لحظوياً على الهواء. وهذه طبقة جديدة من الأخبار/ الواقع، تكمن في التفاصيل الثانوية، في المسافة.
أحياناً، قد تتمظهر مساحة التفكّر هذه بعيداً عن الكاميرا، حيث ينشر الصحافي تساؤلاته ببساطة كما هي:
كل يوم نخاطر بحياتنا، الصحافيون الآخرين وأنا، في محاولة للحصول على إشارة إنترنت. والاتّصال بالشبكة أصبح صعباً للغاية في الشمال. غالباً ما يتعيّن علينا السير لمسافات طويلة بحثا عن إشارة، ثم أفكر في نفسي: هل يستحقّ الأمر كل ذلك بعد الآن؟ لقد مرّ 123 يوماً، فما الذي يحتاجه العالم أكثر لوقف هذا؟
هذه تغريدة للمراسل حسام شبات من شمال غزّة، والجدير بالذكر في حالة تساؤلات كهذه، هو أنّها مرتبطة بمسألتَين:
- الوقت الذي مضى (ويحدّد حسام: 123 يوماً)؛
- والأفعال التي رافقت هذا الوقت (فما الذي يحتاجه العالم أكثر لوقف ذلك؟)؛ وتتّجه التساؤلات تالياً إلى مسائل من نوع «قدرة» الصورة على التأثير، أهمية العمل الصحفي، الحسبة بين المخاطرة ونقل الحدث…
في كل الحالات، مساحة التفكّر والتساؤل التي نتكلّم عنها هنا تتّسع كلّما مضى وقتٌ من دون أفعال تُذكر لوقف الإبادة. وذلك بعكس الحالات المذكورة سابقاً (مع إسلام بدر)، حيث تتّجه الأسئلة إلى الداخل وربطاً بالظروف اليومية الموضوعية، داخل غزّة، بصرف النظر عمّا يحدث خارجها وبصرف النظر عن الأسئلة المتعلّقة بقدرات الصورة ووظيفتها.
أحياناً أخرى، تأتي هذه التساؤلات على تقاطعٍ بين الطرفَين (الداخل والخارج)، تماماً كما عرض مدير ومراسل «الجزيرة» في غزّة وائل الدحدوح، عمّا كان يجول في ذهنه إثر تغطيته مجزرة المستشفى المعمداني، وذلك في مقابلةٍ سُجّلت معه بعد خروجه من قطاع غزّة:
- [...] رائحة البارود ورائحة الموت ورائحة الدماء ورائحة كل شيء تنبعث من كل زوايا المكان. هذا الأمر… يعني… جعلنا في أجواء نفسية غير طبيعية. غير طبيعية نهائياً، ومع ذلك، أنتَ [كصحافي] مطلوب منك أن تتحلّى بقوى خارقة للعادة حتّى تستطيع أن تحدّث الكاميرا لأنّه بعد قليل، سيشاهد العالم ما يجري هنا. وأنا كنت دائماً حريص… يعني… ماذا تلتقط الكاميرا؟ يعني جميع… 90٪ من المشاهد إن لم يكن أكثر…
- لا تصلح للـ…
- غير مسموح، للتصوير. ولذلك، ربّما كرّرت من دون وعي «عن بعد يا حمدان عن بعد يا حمدان عن بعد…». في كل خطوة: «عن بعد يا حمدان». لإنّه أدرك انّه هذه الصور لا يجب أن تُلقى إلى الأرشيف أو ما شابه ذلك. ومع ذلك وين… يعني أين تتّجه الكاميرا؟ أين تتّجه الكاميرا؟ يعني في هذه الزاوية، في هذه الزاوية، في هذا المكان الذي كان يضمّ بعض الأسر التي كانت نائمة في هذه الحديقة. في الكنيسة، تعمّقت قليلاً إلى الداخل، وجدت انه الكنيسة فيها جثامين وفيها أشلاء. في داخل المنطقة التي تسمّى الاستقبال حدّث ولا حرج، الدماء تسيل على الأرض.
بعد الدحدوح أعود لإسلام بدر:
وقد نشر مرّة، عبر حسابه على تويتر، فيديو «فضفضة ونصيحة للزملاء الصحفيين ولكل من ينشر عبر السوشال ميديا». فيديو 3 دقائق صوّره ليلاً من داخل سيارته، بمزاجٍ هادئ، وهو يبدي النصح للمصوّرين عموماً، حول «استسهال نشر خصوصية الناس، أحياء وأموات». يتناول إسلام حجج المصوّرين في الكشف عن خصوصية الضحايا، ويفنّدها، ويناقشها. وهو هنا، لا يعرض فقط مساحة تفكّره هو، بل يوسّع هذه المساحة حتّى تطال زملاءه. تصبح مساحة التفكّر جمعية.
ذكرت هذا الفيديو هنا لأنّ إسلام، في معرض الدفاع عن فكرة مراعاة الخصوصية في التصوير، خاصّةً ما يتعلّق بالدم والأشلاء، يقول إنّ هذه الصور مُفترض إنها ما تُنشر. بيكفّي صورة من بعيد. إذا بتتذكروا الأستاذ وائل الدحدوح، في مجزرة المعمداني، كلمة هيك يعني مشهورة خرجت ارتجالاً منّه لمّا قال «من بعيد يا حمدان من بعيد». هي ها الفكرة بتلخّص المشهد كلّه. نحن اذا بدنا نصوّر، نصوّر من بعيد، ونوصف المشهد. احنا نوصف المشهد. منوصّف المشهد.
ونلاحظ أن كل هذه «المسافات» كانت تدور في العالم البعيد عن النقل المباشر والشاشة الكبيرة. إسلام يتساءل عبر موادّ ينشرها بعد انتهاء الحدث عبر حسابه الخاص، وحسام عبر منشورات يكتبها على إكس في أوقات الاستراحة، والدحدوح عبر مقابلةٍ مصوّرة بعد خروجه من القطاع. وبالمقابل، فإنّ لشاشة التلفزيون مفعولاً عكسياً على هذه المساحة، بل هو مفعول طاحن، حيث «يُرغَم» المراسل على التماسك وتلاوة الخبر تلو الخبر وكأنّه يوجد بالفعل مسافة بينه وبين الواقع. بعد استشهاد كل أفراد عائلته، نحو 20 منهم، جعلت «الجزيرة» مراسلها مؤمن الشرافي يقف على الهواء ما يُقارب ثلث الساعة. 19 دقيقة و22 ثانية وهو مسمّر أمام العدسة، أمام وزنها الساحق، يحاول حبس الدمعة تحديداً لأنّه أمام العدسة. يحكي. ويؤجّل الحداد، والدمع على مشارف عينيه، والوقت يمضي، و«الهواء مملوء».
وفق هذا العرض، تبدو وسائل التواصل الاجتماعي كـ«كواليس» الشاشة الكبيرة. لم تُتح فقط عرض المزيد من المشاهد أو المزيد من القصص أو المزيد من المواضيع، بل باتت تعرض أيضاً كواليس العمل الصحفي. أسئلة المراسلين، آراؤهم، يومياتهم، تفكّراتهم المهنية، تفكّراتهم غير المهنية كذلك، شعورهم حيال أخبار غطّوها. هذه كلّها هي «ما وراء الكواليس».
تالياً، لا تعرض السوشيال ميديا مساحة التفكّر وحسب، بل تغذّيها، تشجّع عليها، تطلب من المراسل أن يراجع ما نشره للتوّ. الحائط على الانستغرام سيبقى حاضراً على الدوام، بينما سيختفي البثّ المباشر في اللحظة التالية. «تثبّت» السوشيال ميديا الخبر، تمنحه عمراً إضافياً. تفتح الزمن.
هذه المساحة تجعلنا نفكّر أيضاً بكثافة الحدث الذي يعيشه المراسلون: الإبادة. كمّ الفظاعات التي يرونها يومياً، والتي يعيشونها يومياً، وكمّ «المرّات الأولى» التي عاشوها، ومحاولتهم الحثيثة لمواكبة حدثٍ يبتلعهم، وإصرارهم على الاستمرار في التغطية. كثافةٌ إلى درجة تخلق مساحة التفكّر هذه أمام الصحافيين، وحتّى أنّها تجعلنا نفكّر بما يفكّرون هم– أو على الأقل نحاول.
3) القيمة الاجتماعيّة للصحافي
بين ما يُحيط عملهم الصحفي؛ وما يجتهدون لإيصاله إلى خارج القطاع؛ وتساؤلاتهم الشخصية داخل القطاع؛ وتواجدهم اليومي مع بعضهم بعضاً وتواجدهم اليومي بين ناسهم وأهلهم؛ وحصر العمل الصحفي بهم داخل غزّة نظراً للحصار المطبق؛ والعدوان الذي يستهدفهم على وجه الخصوص لكونهم صحافيين؛ بين ذلك كلّه، يتبدّل، ببساطة، تعريف «الصحافي». يكتسب قيمةً مُضافة بين ناسه. من دون خيار، يُحمَّل «مسؤولية» إضافية. المعادلة محزنة هنا: كلّما اشتدّ حضور الموت، كلّما اكتسب هؤلاء قيمةً اجتماعيةً أعلى، على أنّ هذه القيمة تظهر بطريقة تعامل الغزّاويين مع مراسلي غزّة. طريقة التعامل معهم بصفتهم أيضاً، أبناء تلك المنطقة؛ بصفتهم «واحداً»، من دون هذا التمييز الفعلي القائم على المهنة.
في سياقاتٍ محدّدة، يصبح المراسل «صندوقاً للشكاوى». نرى الناس يبحثون عنه، ليخبروه ما حصل. لا أقصد فقط ليخبروه ذلك بالصيغة الخبرية، من أجل نقل الموضوع على الشاشة، بل حقّاً من أجل أن يخبروا ذلك له، هو شخصياً. شخصياً، باسمه. أستذكر هنا فيديو الطفل الذي لم يستطع اللحاق بالإنزالات الجوية ونادى على المراسل أنس الشريف بالاسم: «يا أنس الشريف ذلّونا!».
View this post on Instagram
نشر أنس الفيديو مرفقاً بتعليق «يا أنس الشريف ذلونا.. حرقة هذا الطفل وبكاؤه أوجعت قلبي». هذه الصرخة وانتشار الفيديو، دفعا بصفحة «ساحات» إلى مقابلة الطفل (وتبيّن أنّ اسمه عبد السلام أبو غبيض). أستذكر أيضاً فيديو آخر لطفلٍ نجا لتوّه من قصفٍ إسرائيليّ، من دون أن تنجو عائلته. يبحث الطفل بين الناس إلى أن يجد المراسل (الشهيد) إسماعيل الغول، وما أن يراه من بعيد، يركض باتّجاهه ويناديه بالاسم، بصفته اسماعيل فحسب، لا بصفته مراسلاً صحفياً. يناديه:
- عمو اسماعيييل
- ايوا هيني. ايش صار يا حبيبي؟
- ماما… هلقيت هيها تحت الردم… أخويا وامي لسا تحت الردم… وانا لسا بدي… معرفش مين… اخويا اخواتي التلاتة - - - وخالي… متصاوبين. الّا انا طلعت منيح [...]
بحسب معرفتي وما شاهدت، لم أرَ قَطّ طفلاً في «منطقة صراع» ينادي مراسلاً باسمه، وبكلمة «عمو»، ويشكو له ما حصل، مستنظراً شيئاً من المواساة.
في سياقاتٍ أخرى، أخفّ ثقلاً، يلاحق الأطفال المراسلين ويحتفون بهم، كأنّهم سوبر-هيرو يتطلّعون إلى ضرب كفّه. هنا، يحيط أطفال بالمراسل أنس الشريف ما أن يترجّل من سيارته ويهتفون باسمه، مع نغمةٍ للهتاف: «أنس الشريـــــف، أنس الشريف». وهنا آخرون، يتجمّعون حول المراسل (الشهيد) اسماعيل الغول، يفرحون على الشاشة ولا يبتعدون عنه إلى أن يضطرّ إلى الصراخ بهم ممازحاً للتوقّف.
وهنا أطفال يلحقون العمّ وائل الدحدوح كأنّه أبوهم: طفلة تطبع قبلة على خدّه وهو يرفعها أمام الكاميرا؛ وطفلةٌ تحتضنه قبل ثوانٍ من موعد ظهوره على الشاشة، تُريد «أن تطلع معاه على الهوا»؛ وهنا طفلةٌ تلاحقه كي تعطيه خبزاً؛ وهنا طفلة تحتضنه بعدما استشهد أبوها.
ثم يصل الأمر إلى شيءٍ من الاقتداء بهم، والرغبة بأن يصبحوا مثلهم، مراسلين.
هذه طفلة التقت بالمراسل حسام شبات صدفة، بعدما كانت قد سمعت أنّه قُتل. تتفاجأ به، وتخبره أنّها نزلت إلى الشارع الآن فقط كيف تلقي السلام عليه، فيستوضح منها حسام: اشتقتيلنا يعني؟
- والله اشتقتلكم!
- جدعة جدعة!
(مجدّداً، ومن جهتي، لم أرَ في سياقات أخرى ضحايا حرب «يشتاقون» لمراسلي الحرب). ثم يسألها حسام: ايش بدك تصيري لما تكبري؟
- صحافية! وبقول كيف بدي اكون صحافية اذا حسام شبات يُستشهد؟! كيف بدي صير صحافية!
- [...] منسوّيك صحافية. بدك تصيري صحافية؟
- انشالله
- خلص ح تصيري صحفية، يلا سلام.
وهنا، يقف الشاب ياسين أبو الفول، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة، مع المراسل أنس الشريف ويروي له كيف اعتُقل من مستشفى كمال عدوان وتعرّض للاعتداء. يروي قصّته مع ميكروفون الجزيرة، أمام الكاميرا، ثم يختم ياسين بالقول «أنس الشريف، قناة الجزيرة». في فيديو آخر، يظهر وهو يعانق أنس فور رجوعه من الاعتقال. أنس أرفق الفيديو بالتعليق التالي:
صاحب القلب الطيب ياسين أبو الفول، من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان محاصرًا منذ 20 يومًا في مستشفى كمال عدوان، وقبلها كان بجانبي في خيمة الصحفيين، يواسيني بطيبة قلبه ودعواته الصادقة.
ياسين شاب محبوب وله شعبية في مخيم جباليا، يحاول دائمًا تقليدي ويسعدني بذلك.
للأسف اليوم استهدفه جيش الاحتلال الإسرائيلي متسببًا في إصابة ذراعه بكسر متهتك.
في بيت لاهيا، تلتقي سيّدة بالصحافيَّين أنس الشريف وإسلام بدر، وتهمّ إلى تضييفهما القهوة، لا بل تضييف كل مجموعة الصحافيين. تسلّمهم الركوة مع أكواب زجاجية: ما بعرف قديش العدد يعني، عفواً إذا… وإذا بدكم مي بعد طبعاً… في هذا الفيديو، يحكي أنس عن «كرم أهل بيت لاهيا»، رغم الحصار والتجويع. يحكي كيف أنّهم أعدّوا للمراسلين الغداء يوماً، والشاي في يومٍ آخر، والقهوة، والنيسكافيه… حتّى وهو يحكي ذلك ممازحاً تقاطعه السيّدة وتسأل: مرحباكم! نعمل غدا ع السريع؟ يتشكّرونها، ثم تدعو لهم بالعافية وتذهب.
سيدة من مدينة بيت لاهيا استشهد زوجها ونجلها وقصف الاحتلال منزلها تحافظ على عادات إكرام الضيوف رغم قلة الإمكانيات جراء الحصار الإسرائيلي المستمر على شمال غزة pic.twitter.com/DgBJG7esdC
— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) April 27, 2024
وعند ذهابه إلى موقع مجزرة إسرائيلية ارتُكبت للتوّ من أجل تغطيتها، تستوقف حاجة المراسل أنس الشريف وتدعو له:
الله يحميك. الله يحفظك. أنا دائماً بدعيلك: تلقى بإذن الله القوّة، غصب من عن كل مَن قال لاء للصحافة وللجزيرة. الله يحميك. ويحفظك. وتبقى الـ— انتَ مرابط ومجاهد! هادا جهاد اللي بتعمله.
كُتب معظم هذا النص خلال فترة توسّع الحرب على لبنان، في تشرين الأوّل تقريباً. أمّا الآن، وأنا أقترب من الخاتمة، تمّ الاتّفاق على وقف إطلاق النار في غزّة. قبل يومين كان المراسلون يذيعون هذا الخبر، ويخلعون الدرع الواقي— لمرّةٍ أولى. ولكنّهم سوف يُستهدفون من جديد، بين فترة الإعلان عن التوصّل إلى اتّفاق، ودخول الاتّفاق حيّز التنفيذ صباح اليوم الأحد 19 كانون الثاني 2025. وصباح اليوم، سوف يخلعون الدرع للمرّة الثانية، والأخيرة على ما آمل.
View this post on Instagram
هذا أنس الشريف، لحظة الإعلان عن التوصّل لاتّفاق يوم 15 كانون الثاني، تفاجأ بالناس من حوله يحملونه على أكتافهم ويحتفلون معه— يحتفلون به. أنس على سبيل المثال لا الحصر، فالمشهد نفسه تكرّر مع زملائه.
وهذا أنس صباح 19 كانون الثاني، يعلن دخول الاتّفاق حيّز التنفيذ، ليكرّر الحاضرون رفعه على الأكتاف والاحتفال معه— وبه. وللمرّة الثالثة، هذا أنس مساء اليوم الأحد 19 كانون الثاني، يعلن عن تسليم الأسيرات، ليتدافع عليه الناس من أجل تقبيله، ورفعه على الأكتاف، والهتاف باسمه، حتّى كادوا يخنقونه.
ساهم الجهد الذي وضعه هؤلاء في إكسابهم هذه القيمة الاجتماعية الإضافية، العفوية، بين ناسهم. لكن لهذه المسألة، وبسبب وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، وبسبب توق المتابعين إلى الأبطال، لهذه المسألة وجه آخر، أقلّ تفاؤلاً. فقد ساهمت السوشيال ميديا في «أبطلة» مراسلي الحرب، وتصويرهم كخارقين للطبيعة، وإلى درجةٍ ما، «أيقنتهم».
ليس أنّهم لا يستأهلون كل هذا الاحتفاء، ولكن تستتبع هذه النظرة اختزالاً للواقع في غزّة، وربّما اختزالاً لرقعة التعاطف وحصرها في فئات مهنية محدّدة (يمكن بسرعة مقارنة التعاطف والتضامن العالمي مع *المراسل* أنس الشريف و*الطبيب* حسام أبو صفية و*الدكتور* رفعت العرعير، مقابل غياب هذه الحالة تجاه ضحيةٍ أخرى من خارج هذه الفئات). الخطر الأوّل إذاً، هو هذه «الأبطلة»؛ الخطر الثاني هو ما يستتبع ذلك من اختزال للتعاطف؛ والخطر الثالث هو تحويل ناقل الخبر إلى خبر، على حساب إشاحة النظر عن الخبر نفسه، أعني الواقع، أعني الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة.
خاتمة
يمكن أن نختم بهذا التعليق الذي أورده أنس على الفيديو الأخير: «أنا ابن غزّة وابن هذا الشعب». رغم كل هذه القيمة الاجتماعية المُضافة التي اكتسبها صحافيو غزّة خلال 471 يوماً من الإبادة، إلّا أنّهم عاشوا الإبادة من بدون «امتيازات الصحافيين» المتعارف عليها عادةً خلال الصراعات. عاشوا الإبادة بلا قوانين أو منظّمات دولية تحميهم وتتصدّى للاحتلال كرمى لهم. عاشوا الإبادة كفلسطينيين أوّلاً، وكأهدافٍ مزدوجة للاحتلال لكونهم فلسطينيين وصحافيين بالآن نفسه. تالياً، تُمحى الحدود الفاصلة بين ذواتهم، أعني بين كونهم صحافيين أو مواطنين؛ بين كونهم يغطّون الحدث أو يعيشون؛ بين أنّهم في «خارج» أو «داخل» المسألة. يحاولون التمسّك بدورهم المهنيّ، يتماسكون، يُخاطرون، يتريّثون… لكنّ العنف الإسرائيلي يزيحهم دوماً من هذا الدور ويردّهم إلى حالةٍ «أوّليةٍ» أكثر.
ملاحظة «طريفة» هنا، وهي إلقاء نظرة سريعة على مراسلين إسرائيليين وكيف أنّهم هم أيضاً، أمام حدث السابع من أكتوبر، خرجوا من دورهم المهني— لكن لم يغادروا هذا الدور كي يعودوا إلى حالتهم الأولى كـ«مواطنين» أو كضحايا اعتداءٍ ما، بل العكس تماماً، غادروا بالاتّجاه المعاكس: عادوا إلى طبيعتهم كجنود. التناقض فاقع هنا: فيما يضطر المراسل الفلسطيني أن يتّجه من موقعه المهني إلى موقعه كهدفٍ للإبادة، يتّجه المراسل الإسرائيلي من موقعه المهني إلى موقعه كبرغي في هذه الآلة الإبادية.
بعد عامٍ على السابع من أكتوبر، نشرت صحيفة هآرتس مادّة بعنوان «كيف تنقل أخبار مجزرة؟ ما رآه صحافيّو هآرتس في السابع من أكتوبر»، حيث تقابل معدّة الخبر تسعة صحافيين من الجريدة ليرووا تجربتهم. تطرح الكاتبة مقدّمة صغيرة للمادة، تلعب على وتر «الضحية» والشفقة، ثم تختار أن تفتتح الشهادات التسعة بشهادات الصحافي يانيف كوبوفتش الذي يقول بصراحة: «كنت أعيش قريباً من الحدود، في الجنوب، ولذلك ارتديت ملابسي وامتشقت مسدّسي الشخصي واتّجهت إلى الخارج. علمتُ أنّ الكثير من المدنيين كانوا عالقين. لم أفعل ذلك بصفتي صحافياً [...] أنا لا أنظر إلى ذاك اليوم كصحافي. إنّه يومك بصفتك إسرائيلياً، يهودياً، شخصاً كان جندياً مقاتلاً، أباً. أعتقد أنّ دوري كصحافي كان ثانوياً للغاية». وفي شهادة أخرى، يروي الصحافي بار بيليغ مغامراته عندما اقترب من مكان الاشتباكات وكيف ظنّ أنّه سوف يموت في ذاك الصباح. يروي مغامرات كثيرة عاشها كصحافي قريب من الخبر، ثم يختم قائلاً: «بعدما انتهى الأمر، تلقّيتُ اتّصالاً يستدعيني إلى خدمة الاحتياط. كان عليّ أن أعود إلى تل أبيب وأن أرتدي الزَيّ وأن أغادر». صحافية أخرى، تخبرنا هذه المرّة أنّها بلى، تعاطت مع ذاك الصباح تحديداً على أنّها صحافية: «كوني صحافية ساعدني على البقاء قيد التركيز، وتمكّنت من إدارة الحدث كصحافية، لا كشخصٍ له أقارب معرّضون لخطر مميت. كنت على اتّصال مع أهلي على الواتساب، وكنت قلقة للغاية، لكن أبقيتُ على مسافةٍ محدّدة. كان الأمر كأنّني أشاهد المشهد من أعلى وكأنّه لم يكن يحصل لي أنا.
هذا كلّه، ولم أذكر بعد الصحافي الإسرائيلي الذي رافق الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان وفجّر بنفسه منزل أحد المدنيين.
من خلال الأقسام الثلاثة التي مررنا عليها (محيط المادّة الصحفية؛ مساحة التفكّر؛ القيمة الاجتماعية للصحافي)، ينكشف عالم موازٍ لعالم الصحافة كما نراه على الشاشة الكبيرة، على عجل. عالم تملأه التفاصيل. عالم يمشي على حدّ السكّين: بين أن يخدّر المتابع ويجعله يعتاد المشهد، وبين أن يحرّكه ويجعله أقرب إلى الواقع. وأن يجعلنا «نتحوّل من مشاهد إلى شاهد». أن تُسهم هذه الجهود المبذولة في جعلنا نحدّق بهذا الواقع عوض التفرّج عليه، ثم الانخراط به عوض الاكتفاء بالتحديق.
يوم وقف إطلاق النار في غزّة، حاور المذيع أحمد طه مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، وسأله السؤال البسيط: كيفَ أنت؟
هذه أوجاع من الأوجاع المزمنة، التي لا تذهب ولا تستطيع أن تتخلّص منها أو تُشفى منها على الأقل. ولكن بالتأكيد اليوم تستغرب لقائي مع الزملاء على الهواء مباشرة وأحاورهم أنا من الاستوديو، هذا لا تتخيل قديش خفّف عنّي يعني. حقيقةً. وربّما في ساعات الصباح من المرّات القليلة التي بكيتُ فيها كثيراً، وربّما هذا خفّف عنّي كثيراً أيضاً. وكل ما جرى الآن من تبادل، فرحة الناس، أكيد خفّفت عنّي. لأنّه بالنهاية نحن جزء من الناس. يعني لسنا صحافيين بالمعنى المهني فقط. لكن أصبحنا جزءاً من الضحايا. أصبحنا جزءاً من الشهداء الأحياء.
- بكيت اليوم كثيراً؟ بسبب هذه الـ..
- أكيد… أكيد… يعني… لحظات كانت مؤثّرة جداً ولحظات كأنّ… كأنّها كانت مناسبة لاستعادة شريط الذاكرة الذي كنتُ أهرب منه.
أُنجِزت هذه المادّة بدعمٍ من مؤسّسة «اتّجاهات - ثقافة مستقلّة».