وقّع رئيس الحكومة طلب مساعدة صندوق النقد الدولي في خطوة اعتبرها «لحظة مفصلية» في تاريخ لبنان. بدا الرجل بابتسامته واثقًا من الخيار الصائب الذي ارتبط بمجموعةٍ من الأساطير التي حيكَت حول الصندوق المخلِّص.
اللجوء إلى صندوق النقد الدولي يؤمّن مليارات الدولارات يقدّم صندوق النقد الدولي قروضاً (لا مساعدات) بفوائد غير مدعومة. يمكن الصندوق أن يقرض أيًّا من الدول الـ189 الأعضاء لديه، وفق كوتا لكلّ بلد. كوتا لبنان في الصندوق هي أقلّ من 900 مليون دولار، ويمكنه أن يقترض أكثر من أربع مرّات حجم الكوتا، أي حوالي 4 مليار دولار كحدّ أقصى طيلة مدّة برنامج الصندوق (3 سنوات غالبًا). لكن هناك استثناءات، وآخرها الأرجنتين في 2018 عندما أقرضها الصندوق ما يفوق الـ50 مليار دولار، أي 11 ضعفًا للكوتا الخاصّة بها. إلا أنّ هذه الاستثناءات غالباً ما ترتبط بعلاقة البلد المقترِض بأكبر المساهمين في الصندوق، أي العلاقة السياسية بالولايات المتّحدة ودول مجموعة السبع. إضافةً إلى ذلك، تعوّل الحكومة على أن يشكّل الخضوع لبرنامج الصندوق ضمانةً للدائنين الخارجيّين للتفاوض، وأن يحفّز دولاً أوروبية وخليجية على المزيد من التمويل الذي تقدّره الحكومة بحوالي 10 مليار دولار على مدى خمس سنوات. جميع هذه المعطيات المتفائلة غير متوفّرة الشروط. فمن الصعب أن تحظى حكومة حسان دياب بتمويل «استثنائي» من الصندوق، كما أنّه لا ضمانة للمزيد من التمويل الخارجي في ظلّ الآثار المهولة للكورونا على الاقتصاد العالمي.
المسار الانحداري سيتوقّف فور دخول الصندوق
الطريق للحصول على قروض الصندوق صعبٌ وشاقٌّ وطويل. يستغرق ما يقارب السنة، ويمرّ بمراحل وعرة. المرحلة الأولى هي اتّخاذ «قرار» اللجوء إلى صندوق النقد. وهنا يمكننا الجزم بأنّ الخيار اتُّخِذ حتّى قبل تشكيل حكومة حسان دياب. تكمن مهمّة الحكومة في التحضير للمرحلة الثانية، أي تقديم طلب مساعدة للصندوق وتقديم خطّة تُعتبَر مقبولة منه، يوافق الصندوق على إثرها على تقديم المساعدة. «تتّفق» الدولة مع الصندوق على برنامج، وتوقّع عليه حتّى يأتي التمويل تدريجيًّا على مدار ثلاث سنوات، أي حوالي مليار دولار في السنة. تأتي كلّ دفعة مشروطةً بسلّة إجراءات إلزاميّة، وليس بتفصيل أنّ الصندوق سدّد 20٪ فقط من قروضه ما بين 2005 و2009 لعدم قدرة البلدان الخاضعة لبرنامجه تنفيذ سلّة الإجراءات والشروط.
الدولة يمكنها التفاوض مع الصندوق
تبدو الخطة الاقتصادية معدّةً لنيل رضا الصندوق بالدرجة الأولى. فكان مأخذ الصندوق على المسوّدة الأولى من الخطة، عدم تحرير سعر الصرف فوراً وعدم إدراج برنامج الخصخصة بوضوح. فجاءت الخطّة المعدّلة، لتأخذ في الاعتبار ملاحظات الصندوق مقدِّمةً خير دليل على طابع «المفاوضات» التي ستجريها لاحقًا. لكنّ الأهمّ هو أنّه متى اتّخذت الدولة قرار اللجوء إلى الصندوق، يصعب التراجع عن قرار كهذا. فإن تعثّرت المفاوضات أو قرّرت الدولة التراجع عن طلب المساعدة، يُحدث ذلك صدمة سلبية أخرى، يرفض الدائنون الخارجيّون جرّاءها التفاوض على إعادة هيكلة الدين، وتنقطع سُبُل أيّ تمويل خارجي.
دولٌ كثيرة تلجأ إلى الصندوق للإصلاح والنهوض الاقتصادي
هناك قرابة خمس وثلاثين دولة خاضعة حاليًا لبرامج الصندوق. إلا أنّ الدول غالبًا ما تلجأ إليه كملاذ أخير للإقراض بعدما تستنفد وسائل التمويل الأخرى. ويعود عدم التهافت على الصندوق إلى الإجراءات والإصلاحات الموجعة التي يشترطها. غالبًا ما تركّز الإجراءات التقشّفية للصندوق على المدى القصير لتخفيف العجز في الميزانية العامة. لكن، على المدى الطويل، يصبح للإجراءات التقشفية أثر كارثيّ على مسار البلد التنمويّ، خصوصاً عندما تعلق الدولة بالمزيد من برامج الصندوق على مدى سنوات، وتزيد حدّة السياسات التقشّفية.
يبدو «إنجاز» دخول الصندوق إلى لبنان هو دخولنا مرحلة جديدة من باب عريض. فبعدما اعتدنا على اللاعبين الداخليين من الطبقة الحاكمة نفسها (أو مندوبين عنها) على مدار عقود، دخل لاعب جديد إلى ملعبنا بشروطه، فلنتحضّر لمعارك جديدة، يبدو فيها الصندوق منقذًا أحيانًا، و«شمّاعةً» أحيانًا أخرى عند وجوب تمرير إجراءات غير محبّذة. أمّا الجيش والقوى الأمنية، فستنتهي مهمّتها التنموية والإنسانية في توزيع الإعاشات قريباً، وستتفرّغ للغاز والرصاص الحيّ في قمع غير مسبوق لضمان تيسير إجراءات الصندوق أو الحكومة، لا فرق.