رغم كلّ ما نمرّ به ويمرّ بنا، وجدتْ باقةٌ مختارة من المثقّفين العرب الطاقة والوقت لمعركةٍ من عصرٍ آخر، بلا قيمة فعليّة في عصرنا. الشاعر سليم بركات كتب نصّاً أدبياً عن صديقه محمود درويش، يناجيه بعد أربع سنوات من رحيله، ونُشر قبل أيّام.
كتبَ بركات 2000 كلمة تقريباً، منها حوالي 300 كلمة أواخر النص تقول إنّ لدرويش ابنة، وإنّه لم يُنكر هذا الواقع بل رفض الاندماج معه: لم يرد أن يكون أباً. ومثل مقاطع النص الأخرى، انصرف بركات لمقاربة علاقتهما- هو ودرويش- بالحياة. واستمرّ النصّ نحو تتمّاته، في سياقٍ أدبيّ هادئ، بلا أجواء «كشف المستور» أو «المساس بمناقبيّة درويش الأخلاقية» (!).
ككهنة محفلٍ عابقٍ في عالمٍ مهجور، حضرت باقة المثقّفين في لحظة. انتفضوا وكأنّهم بالأمس. نفضوا العمر واليوم عنهم، ولمع في أعينهم بريق السلطة الأدبية. منهم مَن هاجم درويش و«سقط القناع»، ومنهم من نزّه درويش وانهار على عتباته المقدّسة. وراحوا يحكون كأنّهم «يساهمون» في صناعة رأي عام نضاليّ راهن.
بحسب نصّ بركات، الستّ التي حبلت من درويش اتّصلت به مرّتين لتخبره بذلك. وبالمرّتين، طنّشها. فطنّشتْه بعدها. كان ذلك منذ 40 عاماً تقريباً. لا توجد مادّةٌ للرأي العام في هذا الموضوع إلا إذا كانت المرأة أو الإبنة تطلب منّا التفاعل مع القصّة، تريد منّا أن نشاركها ألماً لم يضمر، وأن نرى عنفاً مارسه درويش في سرّه بينما نحتفل به في علننا.
لكن، في الواقع، المرأة لم توجّه لنا الكلام ولا طلبت منا شيئاً. وبالتالي، لا راهن في الحديث ولا مغزى منه إلا بالنظر إلى رد فعل «رجال» الثقافة العربية المتأهّب العنيف، إنْ لتنزيه البطل أو لحرقه، في بحرٍ من عدم الاكتراث.
يتعاملون مع المرأة في القصّة كتهمة يجب تنظيف درويش منها أو حرقه بها.
ومن اللطيف مراجعة هذا المنحى «الجنائي» في مقاربة المرأة، والذي لا ينفك يستأثر بالنقاش العربي كلما حلّ الجنس على جسم «بطل»، تماماً مثلما حصل مع غادة السمّان لمّا روت قصّتها مع غسان كنفاني. صارت تهمته.
الفصل بين الخاص والعام هو أداة أساسيّة في إحلال السلطة الذكورية. ما يجري في الخاص هو ملك لربّ الخاص، إله الخاص، الرجل. إن ضربها أو خانها، فهذا شأنه. أما العلن، فهو حيّز العام، فيه الكلام النظري والشعارات البليغة. حركة تحرّر النساء في العالم ربطت هذا بذاك، فسلطة الذكورية لا تفصل بينهما وإنما تستتبّ على هذا الفصل: المرأة تُسجن إذا «زَنَتْ» بينما الرجل لا يعاقَب إن ضربها أو قتلها في معظم سياقاتنا العربية.
وتأتي المرأة- التهمة لتحكي ببلاغةٍ أكبر عن تجسّد هذا الفصل في رؤية الرجل المثقف العربي لنفسه. على مستوى الشتّامين كما المدافعين، يتّضح أنّ الرجل ليس أقلّ من: الأدب– القضية– الأخلاق– الوعي– الأرض– الوطن.
من المبهر أنّ خبراً عن فردٍ يستدعي ذلك كلّه، وأنّ صورة الرجل عن نفسه تتضمّن ذلك كله.
كتّابنا ومثقّفونا لا يقاربون أنفسهم كبني آدمين، وإنّما كأدوار. كبني آدمين (الخاص)، ينهوسون بالنسوان. كأدوار (العام)، يحجّمونهنّ. كأنّهم المسيح بطبيعتين، نص بني آدم/ نص إله. ويتوجّب على المرأة والرأي العام معاً أن يقضيا العمر «هشتكةً» بالبني آدم وتقديساً للإله.
إنّ الملمح الوحيد في هذه القصّة الذي يستأهل نقاشاً في الحيّز العام هو هذا التجلّي المتكرّر والمستمرّ للذكورة السامّة. لو اتُّهم درويش باغتصاب، لو خرجت المرأة بقصتها، لما قبلنا بالسكوت أساساً.
لكن لمّا يصبح ذكر المرأة مدخلاً لإلغائها أوّلاً، ثمّ استدعاء الوطن والقضية مكانها، إن في معرض الذمّ أو الدفاع، تكون الذكورة السامّة قد صادرت مساحات الكلام.
ومهما أوهمتنا الذكورة السامّة بأنها محور أي قصة وقضيّة، فإنّ القصّة ستبقى قصّة الأمّ والإبنة، لا الشعر ولا منظمة التحرير ولا فلسطين. هما يحدّدان حجمها في حياتهما ومساحتها في الشأن العام، لا مثقّفي العرب من مجايلي درويش أو من تتمّاتهم المؤلمة بيننا. وأيّ تعامل مع القصّة يتضمّن تهميشاً لهاتين البطلتين هو استمرار لنهج عفن، مكرّر، خالٍ من الإبداع مهما اجتهد، ولم ينتج خيراً لأي قضيةٍ.
أخيراً، يحلو للمرأة أن تستمتع بإنجازات النسوية المحلية فتقول بلا خوف من إقصاء أو استباحة: عزيزي المثقّف العربي، إتس نات أبَوْت يو. لستَ محور الكون، ولا حتى محور الزاروب. فالمرأة سئمت من درويش بعد ثاني اتصالٍ هاتفي، ونحن سئمنا منكم منذ الوعي على هذه الدنيا.
أمّا بخصوص «هبّة الرجل الواحد» التي تمارسونها كلما انتقلت امرأة (بإرادتها أو غصباً عنها) من السرّ إلى العلن، من الخاصّ إلى العام، فسارعوا للاستمتاع بها طالما تستطيعون. الزمن يتقدّم، وتقدّمه يهمّشكم. حجّتكم صارت أشدّ مللاً، صوتكم أكثر تحشرجاً وصورتكم أكثر هامشيّة.
لماذا؟
لأنّ النساء كنّ وسيبقين لكم بالمرصاد، منذ الأزل وحتى الأبد.