فجأة، عاد الكلام عن الطائفية، وكأن يوتوبيا الأسبوعين الماضيين انتهت. عادت شعوب لبنان المتناحرة إلى الواجهة وانكفأ شعب لبنان الثائر. ولوهلة، بدت الأيام الماضية هشّة، مجرّد عطلة دامت أسبوعين، قبل العودة إلى الحياة الطبيعية وطائفيتها وفسادها وعنفها.
عاد الكلام عن الطائفية من باب «التطييف». هدّد نصر الله وبرّي بتحطيم الثورة من خلال تحويلها إلى منطق «الشارع» في وجه «الشارع»، كما فعلا في الـ2005. حاول الحريري شدّ عصبه الطائفي، وهذه هي ردة فعله الأولية في كل مرة يُحرَم من منصبه. وجاء من بعده المطارنة الموارنة في بيانهم ليسخّروا الكنيسة للدفاع عن رئيس ساقط في الشارع. انتهى الكلام الرومنسي، وعُدنا إلى الجد، عدنا إلى جوهرنا الطائفي. هكذا تبدو الخلاصة.
لكن ليس هناك من جوهر ثابت. كما أنّه ليس هناك من تطييف خبيث. هناك هويات مركبة، تتعايش فيها انتماءات متفاوتة وأحيانا متناقضة، وتتغير أولوياتها حسب تحوّل المعطيات. وهذا ما يرفض أن يفهمه جهابذة «المجتمع المدني» وسياسيّو الإصلاح وثوّار الضمير المرتاح. ليس هناك من شعب شُفي من مرض الطائفية وارتقى إلى جنّة أوراقهم الإصلاحية. لم نتحوّل من كائنات طائفية إلى أخرى وطنية في أقل من أسبوعين. فكما هناك «جوهرية طائفية»، هناك «جوهرية مدنية»، تعتقد أنّ تحت السلطة شعباً ناصعاً، يتشوّق للتفلّت من قيوده ليلاقي المدنيين في وطنيتهم.
ليس هناك من شعب الثورة. هناك شعبٌ قيد التشكّل يواجه سلطةً قيد الانهيار. وعملية التشكيل هذه لا تلخَّص بنظريات الجوهرانيّة. إنها تقوم على عقد اجتماعي جديد يعيد تركيب الهويات والروابط. وهذا العقد الاجتماعي، عكس الميثاق الوطني أو حوار الثقافات، تتمّ بلورته في الشارع، في الثورة، من خلال العلاقات بين الأفراد التي تنشأ من التجاور في الشارع، من خلال الروابط الجديدة بين المناطق التي تجسدها صيحات التضامن، من خلال التواطؤ الضمني بين الطوائف على زعمائهم. هناك عقد اجتماعي جديد قيد التشكّل، ولكن هناك إصلاحيّون مستعجلون لا يرون إلا خلاصات مؤسّستية لما يجري.
هذا العقد اهتزّ البارحة. قرّرت بيروت أن الثورة انتهت مع سقوط الحريري، وانكبّ ممثّلو الإصلاح على أوراقهم الإنقاذية، وبدأوا يتكلّمون على الشاشات عن المرحلة الجديدة. لم ينتبهوا أن الثورة لم تنتهِ عند «عروسها»، بل امتدت إلى عكار، حيث أطلق الجيش النار عليها، وإلى مناطق أخرى في الشمال والبقاع. تُرِكت طرابلس وحيدة، وحوّلت شعار الثورة إلى سؤال موجّه لباقي المناطق: كلن يعني كلن؟ عنجد كلن؟ أم هي ثورة سقفها إسقاط الحريري، ويمكن أن تتعايش مع بقاء برّي وعون؟
من تقاعس بيروت عادت الهوية الطائفية، وإن لوهلة. عاد من يقول لثوّار الشمال إنّ رفاقكم في سائر لبنان لهم حسابات أخرى. عاد من يقول لطرابلس إنّها مهما حاولت، لن يكون لها دورٌ في هذه الثورة إلا كديكور. وعاد مَن يقول لمتظاهري الشمال إنّ هناك مَن يعتقد أنهم مجرد «سنّة» مهما هتفوا وغنوا وتظاهروا. البارحة، اهتزّ العقد الاجتماعي الجديد، لولا جل الديب التي قالت للجميع مرّةً أخرى إنّ الثورة واحدة، والتي دافعت عن هذا العقد الجديد وأنقذته من تخاذل بيروت. البارحة، قالت جل الديب إن طرقاتها هي طرقات طرابلس، وإن عقداً اجتماعياً جديداً سيُبنى فوق هذا الأوتوستراد.
الطائفية لم تعد، ولم تذهب. هي هنا، تنتظرنا في كل لحظة. لكنّ الردّ عليها ليس في أوراق الطريق نحو الدولة المدنية، بل في التضامن، في تسكير الطرقات والساحات تضامناً مع كلّ ثائرة وثائر في لبنان. فالثورة ليست فقط من أجل حكومة جديدة. هي من أجلنا، من أجل بعضنا بعضاً، ممارسة يومية في التضامن، مدخل لعقد اجتماعي جديد. الثورة هي اعتذار لكل ثائرة وثائر تركناهم وحيدين في الساحات.
العودة إلى الحياة الطبيعية، هي العودة إلى الطائفية والفساد والانتظار العبثي لخطاب رئيس ساقط. البقاء في الثورة، هو تضامن جل الديب مع طرابلس. فليختَر كلٌّ منّا أيّ حياة يريد.