لا يفوّت اليمين اللبناني (مسيحياً كان أم إسلاميّاً أم ملحداً) فرصةً، وبالتحديد أزمةً، إلّا ويرى فيها طبقَ الفضّة لبسط أفكاره العنصرية والطائفية والفوقية. ففي حين يُفترض بالأزمات أن تُكتِّل الفئات المتضرّرة على مقاربة شعبية للمواجهة، أو على منطق التكاتف والتكافل والعمل التشاركي، يحرص يميننا اللبناني على كسر هذه المقاربة.
هذا ما برز بعد تفجير المرفأ وأعمال الإغاثة، بشكلٍ مثيرٍ للنقد، تحديداً لدى: التيّار الوطني الحر والقوّات اللبنانيّة.
المنطقة عُلِّقَت يافطة في ساحة ساسين مع لوغو القوّات، تقول: الأشرفية مش للبيع. طبعاً بالنسبة لهؤلاء، لا خجل في رفع يافطة كهذه، لا بل يجدونها مدعاة للفخر. لكنّ الإشكالية تكمن في أنّها تنسف المقاربة الشعبيّة في الصمود ما بعد الجريمة. أعني: الشعار الأعمّ الذي هو بيروت مش للبيع، وهو في هذه الصياغة وعندما ترفعه الكتلة الشعبيّة المتضرّرة من التفجير، شعار مقاوم.
بيروت مش للبيع هو شعار مضادّ للسلطة، شعار مضادّ للمستثمرين ومنطق رأس المال والاقتصاد المُلَبرَل (الذي يتبنّاه حزب القوّات). هو في هذه الحالة شعار لتنظيم الفئات الشعبية وتعبئتها طبقيّاً حول المسألة السكنية، ويقول ضمنياً التالي: «حزب المصارف يتعمّد تصعيب عمليّة الترميم علينا، كذلك الدولة وأجهزتها تتواطأ معه وتتعمّد عرقلة هذه الأعمال، لنصير فريسةً دسمةً أمام المستثمرين، ونحن نرفض ذلك».
هنا، ينفع هذا الشعار في المواجهة، فهو يجمع ولا يفرّق، بصيغة عابرة للمناطق. إنّما في صيغته الممسوخة، صيغة اليمين، هو شعار لا يهمّه المقاربة المذكورة، ولو عُرِفَ بها لكان تبرّأ من نفسه. بالنسبة للقوّات اللبنانية، لا ينبع رفض البيع من هذه المقاربة العضوية، المُدنية، المُجتمعية، التضامنيّة، بل ينبع من النعرة الطائفية. ينبع من هويّة قومية ومناطقية، عمدت 17 تشرين إلى تجاوزها، وها هي القوّات اليوم (التي تدّعي زوراً انخراطها بـ17 تشرين)، تعيدنا خطوات إلى الوراء.
الطائفة هو التصريح العلمي المُبهر للنائب العوني، نقولا الصحناوي، والذي تكفّلت التعليقات التهكّمية بتعريته. فبينما عبّر تفجيرا ناكازاكي وهيروشيما- وبالسياق ذاته تفجير مرفأ بيروت- عن جريمة إنسانية تجد جذورها في إشكاليّاتٍ سياسيّة، ولاقت على هذا الأساس دعم وتعاطف المجتمعَين الأهلي والدولي على اختلاف مشاربهما، يتنطّح المنطق العونيّ لإظهارها- ولو بتشويهٍ للتاريخ- على أنّها تستهدف طائفة حصراً، ليلعب دور المظلومية، ليُعيد تشريج رصيده السياسيّ الذي جفّ وما زال يجفّ.
الجنسيّة تناوب القوّاتيّون والعونيّون بشديد التناغم على العنصرية تجاه الضحايا الأجانب، وأيضاً تجاه المسعفين والمتطوّعين الأجانب. طبعاً ليس كلّ الأجانب، فعقدة الأجنبي تختفي تلقائيّاً أمام «الرجل الأبيض» كما نشهد اليوم مع زيارة ماكرون «المخلّص». إنّما تتكثّف تحديداً في وجه الفلسطينيّين والسوريّين. ففي حين تبرهن تصرّفات هؤلاء على أنّ المسألة القومية ثانويّة في أزمات كهذه، يصرّ اليمين اللبناني على استغلال الأزمة لتعويم هذه التناقضات. فالمساندة والدعم اللذان قدّمهما الفلسطينيّيون والسوريّون معتبِرين أنفسهم متضرّرين من الأزمة بالقدر ذاته، قوبِل بكمٍّ مقيت من العنصرية والفوقيّة والكراهية، دون سببٍ وجيه، بل بسبب ترسّباتٍ إيديولوجيّة يمينيّة.
هكذا، في حين تحفّز الأزمات، بطبيعتها، الفئات المتضرّرة على التكاتف والتعاون وحلّ الأزمة بعملٍ تشاركي، يسعى اليمين اللبناني، من جديد، إلى لجم هذا التعاون وإعادتنا إلى المربّع الأوّل، أو بالأحرى المثلّث الأوّل، ذلك الذي يضع الأزمة من جهة، ويقاربها من ثلاثيّة: المنطقة، والطائفة، والجنسيّة.